أوكرانيا… أحلاف وتكتلات دولية جديدة وتغيير في معايير القطبية
البعث الأسبوعية- ريا خوري
منذ عودة جمهورية روسيا الاتحادية إلى الساحة الدولية، لم تدخر الولايات المتحدة الأمريكية جهداً لمحاصرتها بهدف إضعافها وإبعادها عن ساحة المنافسة. ومع بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، خرجت الأهداف الحقيقية التي رسمتها واشنطن في كواليس الدولة العميقة والمتمثلة بإسقاط الدولة الروسية. كان ذلك قد قيل صراحة من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال خطاب ألقاه في بولندا القريبة من الحدود الأوكرانية. هذا التصريح كشف ما يضمره الرئيس بايدن، كما كشف عن نوايا إدارته في توجيه الصراع الغربي بشكل عام نحو روسيا، مع العلم أن التصدي للصين وتطورها ونموها الاقتصادي المتسارع كان من أولويات برنامج بايدن الانتخابي.
ومع توجيه هذا الصراع باتجاه روسيا، تم ادخال العديد من الدول ذات الارث الاستعماري والحليفة للولايات المتحدة بمرحلة خطيرة، على الرغم من أن معظم بل جميع الأطراف المشاركة بالصراع الدائر في أوكرانيا تؤكد على تخوفها من نشوب حرب عالمية ثالثة. وبالتالي لا يمكن لأحد تقدير الانهيارات السياسية والاقتصادية التي ستعاني منها دول العالم، وما ستعانيه جراء العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على روسيا التي بدأت دلائل ذلك بشكل واضح في حالة التضخم الكبير التي شملت أسعار البضائع والمنتجات والسلع الضرورية، وبشكل خاص مصادر الطاقة من نفط وغاز.
من المؤكد أن هذه الحرب وما تبعها وسيتبعها لم يكن لها لتشتعل لولا التحريض الأمريكي المستمر ضد روسيا، وتمسك الإدارات الأمريكية المتعاقبة بفكرة تمدد حلف شمال الأطلسي ( الناتو) إلى شرق أوروبا وتشجيع الحكومة الأوكرانية على الانضمام للحلف وللاتحاد الأوروبي. علماً أن روسيا كانت قد طلبت مراراً ، وعبر العديد من المنصات الدولية بأن يكون نظام الأمن الاستراتيجي في القارة الأوروبية متوازناً، وأن يستند إلى التكافؤ والندية، وأن يتوقف حلف شمال الأطلسي عن التمدد شرقاً، ولكن مطالب روسيا قوبلت بالرفض العلني في كثير من الأحيان وبالصمت أحيان أخرى، فكانت النتيجة اندلاع هذه الحرب، وما تحمله من ويلات ومآسي على الجميع، والتي أصبحت تشكل تهديداً حقيقياً للسلم والأمن العالميين.
وبما أن الأمر وقع فلاشك أن الحرب سينتج عنها أزمات متفاقمة وحادة على مستوى واسع، وستلقي بظلالها على الأوضاع الاقتصادية والمالية والسياسية والاجتماعية وحتى الإنسانية في العالم. وبالطبع ستودي إلى انبثاق نظام عالمي جديد، لن يكون ثنائي القطبية، أو متعدد الأقطاب، بل سيستند بقوة إلى سياسة الكتل الكبرى، وتقسيم العالم إلى عدة محاور تتبع كل منها واحدة من الكتل القوية التي ستتشكل مجدداً، وهي من المواضيع الأساسية والحيوية الهامة في العالم.
ومن أجل إيقاف هذه الحرب لا يوجد سبيلاً ومرشداً إلا إذا حققت روسيا مطالبها وشروطها كاملة، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى وجود عالم جديد، وقطبية جديدة لقيادة العالم لا تكون فيه الولايات المتحدة هي المسيطرة وحدها. فالقيادة الروسية تؤكد على ضرورة إيجاد توازنات إستراتيجية في ضوء ما يجري من عمليات في أوكرانيا، وأن العملية العسكرية الروسية ستتوقف فعلياً إذا تم تحقيق الأهداف الروسية، لكن من الواضح أن الإدارة الأمريكية لا تريد وقف هذه الحرب، بل تريد أن تستمر العملية وقتاً أطول، وعليه لا يعرف أحد ما سيخبئه المستقبل.
لكن ما هو واضح حتى الآن أن القيادة الروسية عازمة على تحقيق الدفاع عن الأمن القومي الروسي، والحفاظ عليه من أي حالة خراب أو تضليل من قبل حلف شمال الأطلسي، لأن هذا أمر استراتيجي لن تتخلى عنه مهما كلف من أمر. وبالفعل فقد أظهرت روسيا قدرة كبيرة وفائقة في الدفاع عن ذاتها وأمنها القومي.
منذ تسلل الناتو إلى الدول المجاورة لروسيا، أدركت القيادة الروسية أن هناك تهديد مباشر لأمنها القومي، وأن الإستراتيجية القادمة للحلف هي ضرب القوة الروسية في العمق، لذلك ضربت عملياتها العسكرية في أوكرانيا تلك العقيدة ووأدتها في مهدها، والأهم كشفت هشاشة الاتحاد الأوروبي وضعفه، وهذا ما أثار القلق والخوف في صفوف القادة الأوروبيين، وبيّن أن منظومة الأمن الأوروبي التي تستند إلى الولايات المتحدة منذ أكثر من سبعين عاماً ليست بتلك القوة والرصانة كما كانت التصريحات والتقارير ووسائل الإعلام تزعم.
هذه الهشاشة كانت تعلمها موسكو جيداً، وترتكز في معطياتها على المطالبة الصريحة والواضحة للعديد من بلدان الاتحاد الأوروبي المنضوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي بالانفصال عن الحلف، والدعوة لتشكيل قوة عسكرية أوروبية موحدة نواتها مشكّلة من ألمانيا التي أعلنت أنها زادت ميزانيتها العسكرية إلى ما يزيد عن مائة مليار يورو وهو ضعف ما تنفقه روسيا على تطوير صناعاتها الحربية. هذا المشروع الألماني لقي تجاوباً وقبولاً في العديد من دول أوروبا مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا التي تفكر في السير ضمن هذه الإستراتيجية .
في الواقع إن النهج الذي كانت تسير عليه أوروبا هو نقلة نوعية في التفكير الاستراتيجي الأوروبي، لكن هذه الإشارة لم تلتقطها دول شرق أوروبا التي وضعها حلف شمال الأطلسي في مواجهة غير محسوبة مع روسيا. وما دامت دول أوروبا الغربية تعتمد التسليح الذاتي، والمنافسة مع الولايات المتحدة، فإن هدف واشنطن من إطالة أمد الحرب هو ضرب المشروع الأوروبي، وزيادة التسلح في دول أوروبا الشرقية، رداً على تسلّح ألمانيا وزيادة النفوذ الأمريكي في أوروبا أكثر بكثير مما هي عليه اليوم.
هذه الإستراتيجية الجديدة ستؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار الدولي، وستؤدي بشكل عملي إلى تشكيل كتل وأحلاف جديدة غير التي يعرفها العالم اليوم. كما ستؤدي أيضاً إلى استقطابات جديدة لا تنحصر فقط بين معسكري الغرب من جهة ومعسكر روسيا من جهة أخرى، بل سيولد محاور دولية جديدة تساهم في تغيير معايير القطبية وقيادة العالم.