سؤال التاسع من أيار.. هل انتصرنا فعلاً على النازية؟!
أحمد حسن
في كل عام وفي التاسع من أيار يحتفل العالم بالانتصار على النازية، بيد أنه وفي كل عام أيضاً يتكرر السؤال ذاته، علناً أو ضمناً، هل انتصرنا فعلاً على النازية في ذلك اليوم المشهود؟!.
واللافت أن هذا السؤال السنوي يبدو، هذا العام، وبمناسبة الحرب في أوكرانيا أكثر جدية وراهنية من الأعوام السابقة، بيد أن ذلك لا ينفي حقيقة أن الاحتفال به في كل مرة، منذ تلك اللحظة الفارقة عام 1945، يبدو –رغم ضخامته وهيبته العسكرية- احتفالاً روتينياً وناقصاً بصورة أو بأخرى، وإذا كانت هناك أسباب عدة لذلك فإنها تندرج جميعاً في إطار الحقيقة القائلة إن الانتصار بحد ذاته كان، ولا زال، ناقصاً وجزئياً بمعنى ما، أي أنه حصل عسكرياً بعد حرب عالمية طاحنة وفي يوم معين وعلى دولة محددة فيما لم يحدث الأمر ذاته على المستوى الفكري والأيديولوجي أبداً، فالنازية التي فقدت قوتها العسكرية ذلك اليوم لم تفقد زخمها الأيديولوجي بالمطلق، وإن تعرضت لرضوض لم تتعاف منها بالكامل، بل ربما كان في خسارتها لحزبها، الحزب القومي الاشتراكي العمالي، ومقرها الألماني و”هتلرها”، دفعاً لها كي تتمدد وتتغلغل في أحزاب ومجتمعات أخرى وإن بأسماء مباينة ومخاتلة وتحت يافطات براقة مختلفة، والأخطر من ذلك أن بعض هذه الأحزاب والمجتمعات التي اخترقتها النازية كانت من جملة ضحاياها ذاتهم خلال تلك الحرب، وذلك أمر يعيدنا إلى ضرورة تتبع الجذور والأصول الفكرية للنازية ما قبل “هتلر” وحزبه، بكثير وهو أمر سيكشف عن حقيقة مرعبة مفادها أن النازية باقية وتتمدد ولا يبدو أن شيء سيغير من هذه الحقيقة في المدى المنظور.
ومن الملاحظ في هذا السياق أن الاحتفال يبدو أوروبياً -بالمعنى الجغرافي والسياسي- بالدرجة الأولى. بقية أنحاء العالم وخاصة أفريقيا وآسيا لا تشعران به. “المانيا النازية” لم تكن تحتل بلادهم بصورة عامة. خصومها أي فرنسا وبريطانيا، وسواهما، هم من كانوا “يقترفون” هذه الجريمة، وأبعد من ذلك فإن أوروبا المنتصرة –والنازية نتاجها الفكري والعملي الحصري- ومعها أمريكا، نظفت بلادها من النازية جزئياً، أي في الممارسات الداخلية فقط، وصدّرتها خارجياً نحو المستعمرات في بقية أنحاء العالم، ثم بدأت، في فترة لاحقة، تستخدمها كذريعة، مع أختها الفاشية، لتتهم بها كل من يخرج عن طوعها، حتى أن الأمر وصل إلى اتهام روسيا بها في الآونة الأخيرة، فيما كانت موسكو هي من دفع الثمن الأكبر في معركة هزيمتها، فلولا صمودها الأسطوري في “ستالينغراد” لكان وجه العالم بأسره قد تغير عما نألفه اليوم.
لمحة تاريخية
والحال فإن النازية الالمانية ظهرت كـ”حلّ” ورد فعل، متطرف طبعاً، على فعل، متطرف أيضاً، فرضه المنتصرون في الحرب العالمية الأولى على المهزوم فيها، فكانت معاهدة فرساي عام 1919 إذلال مكتمل الأوصاف للشعب الألماني، زادها أواراً التبعات الكارثية للأزمة الاقتصادية التي عصفت بأوروبا والعالم بعد الحرب.
هذا قطعاً لا يبررها، لكنه محاولة لفهمها ووضعها في سياقها التاريخي. الهزيمة دفعت بمفكرين وفلاسفة للتأصيل الفكري لها وبسياسيين طموحين ومغامرين لاستلهامها، وبشعب يشعر بالذّل الدائم لتبنيها ثم ينطلق ليذيق الآخرين ما ذاقه، بل وأكثر بأضعاف متعددة.
في الوقائع
أوروبة منتجة النازية وراعيتها الأولى، هذه حقيقة أولى لا بد من التأكيد عليها في عضر الضياع الإعلامي هذا، أوروبا هذه وفي تطهرها من هذا الدرن صدّرته، مع إحدى ضحاياه، إلينا –ولأسباب مصلحية داخلية واستعمارية خارجية- فكان أول عمل لها بعد نهاية الحرب أن نقلت المأساة والمجزرة بأسرها إلى بلادنا وحلت مسألة ضحاياها على حسابنا، أخلاقياً وعملياً، لنصبح نحن ضحية جرم لم نرتكبه وشيء لم نقم به، ولسنا مسؤولين عنه، أو كما نقول عادة لا ناقة لنا به ولا جمل، ولا “أفران غاز” ايضاً، لم تدخل جيوشنا باريس وتنصب فيشي حاكماً عليها، لم تدمر طائراتنا لندن، لم تجتح جيوشنا أوروبا الشرقية بأسرها تقريباً لكننا من دفع الثمن الأكبر والمستمر، وبالتالي لم ولن نشعر بطعمة الانتصار على النازية وأشقائها من فاشية وغيرها، فيما نعاني من احتلال استيطاني احلالي ينزع إلى إبادة شعب بكامله -يجب أن يسحق كالديدان كما طالب أحد حاخاماتهم المعروفين- لإحلال شعب آخر، موهوم، مكانه، فماذا نسمي هذا؟؟!!، ذلك هو سؤال التاسع من آيار الحقيقي وما لم نجد له جواباً ولم نخلق له “ستالينغرادنا” الخاصة فإننا الضحايا الدائمون.
قصارى القول
إذاً ما دام هناك منتصر ومهزوم فالنازية مستمرة، وللمفارقة فإن البعض يحاول التفرقة بين النازية والفاشية وسواهما من الأنظمة القاتلة، حسناً هذا تفريق “أكاديمي” صحيح وضروري للدراسات الأكاديمية، ولكن ماذا تفيد الضحية من ذلك؟، وهل يواسي الشاة الذبيحة معرفة نوعية وتوجهات “جزارها” الفكرية والسياسية؟؟!!.
لكن الانتصار والهزيمة لا يقعا في ميدان القتال العسكري فقط، بل هما يحدثان يومياً في كل الميادين الأخرى، مثلاً إقصاء الآخرين نازية، السيطرة الكلبية على موارد الدول الأخرى وثروات الشعوب نازية، توجّه البروباغندا الإعلامية الغربية، المدفوعة رسمياً، إلى التقليل من أهمية دور الاتحاد السوفياتي في هزيمة النازية والعمل مقابل ذلك على زرع فكرة أن واشنطن ولندن وبدرجة ثانية باريس هم من انتصروا، وحدهم على النازية، هو عمل نازي أيضاً، وأبعد من ذلك فإن محاولة إحياء أفكار التفوّق العرقي والخوف من الآخر، هو عمل نازي بامتياز، وبالطبع فإن تقسيم المهجرين بسبب الحروب إلى درجات بسبب لون أعينهم أو خلفياتهم العرقية كما يحدث الآن، نازية أيضاً.
كلمة أخيرة
بالأمس مرت الذكرى الـ”77″ للانتصار العسكري على النازية لكن الوقائع المتتالية تقول إنها لا زالت “باقية وتتمدد”، فكرياً وعملياً، بجهود أغلب من احتفل بهذه الذكرى بالأمس، وإذا كانت الحرب أخطر من أن تترك بيد “العسكر” فقط، فإن محاربة النازية تحديداً أمر أخطر من أن يترك بيد صناعها أنفسهم.