دراساتصحيفة البعث

مجزرة الطنطورة شاهد على فلسفة الإبادة الجماعية

د. معن منيف سليمان

تعدّ المجزرة التي وقعت في بلدة الطنطورة، جنوبي حيفا، أكثر بشاعة وفظاعة وتنكيلاً من مجزرة دير ياسين المعروفة، حيث لم يكشف النقاب عنها وعن تفاصيلها السرية إلا حديثاً، ولم تلقَ اهتماماً فلسطينياً، كما لاقته مجزرة كفر قاسم.

بدأت أحداث المجزرة في 22- 23 من شهر أيار عام 1948، عندما احتلّت القرية من قبل عصابات الهاغانا الصهيونية الإجرامية (الكتيبة الثالثة في لواء ألكسندروني)، ومن قوات الجيش الصهيوني، حيث قامت هذه القوات باعتقال عدد كبير جداً من أهالي القرية من نساء وشيوخ وأطفال وشباب، وتمّ عزل الشيوخ والنساء وأطفالهم إلى جهة، وعزل الرجال والشباب إلى جهة أخرى، وقد طُلب من الشباب والرجال حفر قبور لهم في مقبرة القرية، وقامت قوات من الجيش الصهيوني وعصابات الهاغانا الصهيونية باستجواب الشباب والرجال، فيما إذا كان لديهم أسلحة يخفونها أم لا، وأين يخفونها. وفي كل الحالات، ومهما كانت الردود سلباً أو إيجاباً، كان يطلق الجنود وأفراد الهاغانا النار عليهم من أسلحتهم الخفيفة، وعلى رؤوسهم بالتحديد، ويردونهم قتلى على الفور، وكانوا بعد ذلك يشيرون لزملائهم الأحياء، بالعمل على دفنهم فوراً في القبور التي حفروها بأنفسهم. وكذلك تمّ قتل معظم النساء والأطفال بالطريقة نفسها تقريباً.

ولقد اعترف بعض من الجنود الصهاينة بحقيقة ما حدث بالضبط، وكانوا ضمن من قاموا بهذا العمل الإجرامي، ومنهم من كان يفتخر بعمله هذا، وقالوا إن عدد “القتلى” من الفلسطينيين الذين تمّ إعدامهم بدم بارد في البلدة يتراوح ما بين 200- 280 فرداً، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ من كبار السن.

إن مجزرة الطنطورة التي وقعت بعد حوالي شهر من مجزرة دير ياسين في التاسع من نيسان عام 1948، استهدفت تحقيق الهدف الصهيوني المركزي المتمثل بإبادة الفلسطينيين بقوة السلاح وترهيب المدنيين وتهجيرهم. فالمجازر والإبادة الجماعية التي ارتكبتها ونفذتها العصابات الصهيونية ضد العرب في فلسطين هي جوهر الفكر الصهيوني، فقد قرّرت الصهيونية منذ البداية أن تعتمد القوة والمجازر الجماعية والإرهاب سياسة معتمدة في التعامل مع الفلسطينيين والعرب، من أجل تنفيذ المخطط الصهيوني المبنيّ على إبادة الآخر والتخلص منه ومن وجوده بكل الوسائل والأشكال الممكنة وغير الممكنة، وقد جاء قيام “إسرائيل” تطبيقاً لهذه العقيدة، التي لا تستطيع “إسرائيل” التخلّص منها، ففلسفة الإبادة الجماعية واستخدام القوة وشنّ الحروب ما تزال هي العقلية المسيطرة على “إسرائيل”، قيادة وشارعاً، ولا يمكن أن توقفها أو تردعها “مسيرة السلام” والمفاوضات، فالمفهوم الإسرائيلي للسلام يقوم على استئصال الفلسطينيين الذين يناضلون ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وبناءً على ذلك، وبعد أن جرى استئصال سكان قرية الطنطورة العرب، وفي شهر حزيران من العام نفسه، أنشأ المهاجرون القادمون من الولايات المتحدة وبولندا كيبوتس “نحشوليم” على أراضي القرية إلى الشمال الشرقي من موقعها، وفي العام التالي، أنشأ المهاجرون والصهاينة القادمون من اليونان مستعمرة “دور” شرقي الموقع، ولم يبقَ من القرية الفلسطينية الأصلية، إلا مقام وقلعة وبئر قديمة وبضعة منازل، بعد أن هدم اليهود الصهاينة معظم منازلها، وينتشر نبات الصبار وكثير من شجر النخيل في أنحاء موقع القرية، وقد تحوّل الموقع إلى متنزه إسرائيلي يضم بعض المسابح.

وأمام هذه المأساة الإنسانية تتمادى “إسرائيل” في تجريف المنازل واعتقال الناس وقطع الأشجار دون إعارة أي اهتمام لمطالبة مجلس الأمن الدولي لها بالتوقف. ويلوذ العالم العربي بالصمت المطبق إزاء القتل والتشريد والهدم الذي تتعرّض له المدن والقرى الفلسطينية، فماذا بقي في أيدي هؤلاء من وسائل يمكن أن يستغلوها لمعالجة القضية الفلسطينية؟.

ويبقى واجب على أحرار العرب، الذين تهمّهم القضية الفلسطينية، متابعة آثار هذه القرى، التي تمّ تدميرها واحدة تلو الأخرى، من قبل العصابات الصهاينة، وجنود الجيش الإسرائيلي، بعد أن عملوا المجازر في أهلها، والبحث عن تاريخها وأهلها الباقين حتى الآن، وسرد تاريخ هذه القرى، وما أصاب أهلها من دمار وتقتيل وتعذيب وتهجير. وأيضاً على أحرار العرب بالتعاون مع الشرفاء من الفلسطينيين، حصر الأضرار المادية وغيرها والمعاناة التي ألمّت بأهالي هذه القرى من الفلسطينيين حتى يومنا هذا، ورفع قضايا ضد قيادة الجيش الصهيوني المسؤول الأول عمّا ألمّ بهذه القرى من المذابح والدمار، والمطالبة بالتعويضات المناسبة، أسوة بما قاموا ويقوم به اليهود الصهاينة من أخذ التعويضات على ما يدّعون أنه أصابهم على أيدي القوات النازية في أوروبا إبان الحرب العالمية الثانية.