مجلة البعث الأسبوعية

خلل بنيوي بتركيبة “قطاع الأعمال”..المصالح الشخصية والرؤى الضيقة تحكم ذهنية رجالاته.. وخلافاتهم الدائمة تتصدر أعمالهم..!.

كتب المحرر الاقتصادي

ينبئ المشهد العام لقطاع الأعمال في سورية، بأن ثمة خلل بنيوي ينتاب تركيبة هذا القطاع، مردّه افتقاده لرجال أعمال حقيقين ومؤصلين، ممن يمتلكون رؤى اقتصادية تنموية واجتماعية في آن معاً، والقادرين على نسج علاقات متينة مع نظرائهم في الخارج ليكونوا بذلك سفراء اقتصاد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ويعملون كرديف استثماري وشريك يقدّر مفهوم الشراكة للحكومة بكل أبعادها، ولا يعملون ضمن الرؤى والمصالح الضيقة، لا كما هو حاصل حالياً لدى متصدري هذا المشهد ممن أثبتوا عقوقهم لدولة طالما منحتهم امتيازات استثمارية استساغوها ليطلبوا المزيد منها، دون أن يقابلوها بما ينفي عنهم صفة “التطفل” التي التصقت بهم نتيجة نأيهم عما يتوجب أن يضطلعوا به من دور يؤكد أنهم “رجال أعمال” لا “رجال أقوال”..!.

معدنهم الحقيقي..!.

للأسف كشفت الأزمات المتلاحقة للاقتصاد السوري معدن قطاع الأعمال لدينا، فالتجار لا يعملون إلا وفق مبدأ “التجارة ربح وربح”، بدليل مطالبتهم الدائمة فتح باب الاستيراد على مصراعيه تحت ذريعة “توفير كل الاحتياجات للمستهلك تحقيقاً للمنافسة وتخفيض الأسعار”، جاهلين أو متجاهلين انعكاسات هذا الأمر على انحسار وربما وأد الإنتاج الحقيقي..!.

أما الصناعيين فقد استسهلوا كارهم ودأبوا بالاشتغال على ما يسمى تجاوزاً بـ”صناعة التغليف والتوضيب”، و”صناعة القهوة”، والتي يتم استيراد مستلزماتها الأساسية المعتمدة على “الرز والسكر والشاي والبن..إلخ، من الخارج وبالقطع الأجنبي.. فعن أية صناعة تتحدثون..؟!.

تحفظوا واستنكروا ولكن..!.

تلقينا العديد من التحفظات والاستنكارات على ما سبق وسطرناه من انتقادات لهذه الشريحة من قبل بعض من يعتبرون أنفسهم رجال أعمال.. وتقصّدناالتوقف عن تناول تجاوزات هذه الشريحة، وإعادة النظر إليها من زاوية أخرى ولاسيما بعد تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي عامة والسوري خاصة، وتوقعنا أن يتفهموا وجهة نظر الحكومة خلال اجتماعها بممثليهم استعداداً لما سيتمخض عن هذه الأزمة وتأثر الوضع الاقتصادي والمعيشي بها، وكانت النتيجة توالي ارتفاع الأسعار المترافق مع احتكارات هنا وهناك لسلع مثل الزيت والبرغل، وإعادة عزف أسطوانة “فتح باب الاستيراد على مصراعيه”..!.

للأسف قليلة..!.

في الوقت الذي لا ننكر فيه أن هناك شريحة من قطاع أعمالنا–وإن كانت قليلة- أبت إلا أن تبقى في هذا البلد، وتجتهد لتعزيز البنية الإنتاجية، نبين أن تناولنا المستمر لهذا الموضوع ينطلق من اعتبارات أولها أهمية لفت الأنظار إلى تدعيم وترسيخ دور هذا القطاع والذي تجاوزت نسبة مساهمته بالناتج المحلي الإجمالي الـ60% خلال سنوات ما قبل الأزمة، وثانيها الاستفادة من مرونتها لجهة توسيع رقعة المشاريع الاستثمارية، وثالثها تطويع علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع النظراء لها لصالح تدعيم البينة الإنتاجية، ولاسيما إذا ما علمنا أن سورية بلد الامتياز الحقيقي للاستثمار، والمفروض انعكاس هذا الأمر على مجالات التنمية الحقيقية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي.. لكن الذي حصل للأسف أن أغلب الاستثمارات التي دخلت إلى سورية خلال سنوات ما قبل الأزمة، وظفت في المجال الريعي، أكثر من نظيره الإنتاجي الحقيقي، فكان المكسب الحقيقي لرجال الأعمال الذين طالما تغنوا بتنمية الجانب الاجتماعي وتقليص مستويات الفقر، إلا أن ذلك لم يكن له ذلك الأثر..!.

نعتقد في هذا السياق أن سلطاتنا التنفيذية تتحمل المسؤولية في هذا الجانب، عبر جذبها لمستثمرين لا يبالوا برد ولو جزء مما منحته من تسهيلات استثمارية خلال سنوات ما بات يعرف بالانفتاح والاستقرار الاقتصادي، تماماً كمزارع يستنزف خيرات أرض خصبة بزراعات على مدار مواسم متتالية دون أن يغذيها بما يلزم من أسمدة ومواد عضوية فتتحول إلى أرض قاحلة، ويبحث المزارع بدوره عن أخرى أكثر خصوبة..مع تقديرنا بالطبع لمفهوم “رأس المال الجبان” وما يقتضيه من بحث دائم عن البيئة الاستثمارية الأكثر أماناً، ولعله من المناسب هنا أن نستذكر ما قام به رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد خلال أزمة المضاربة التي قام بها رجل الأعمال الأمريكي جورج سيروس في محاولة منه ضرب الاقتصاد الماليزي، حيث لجأ رئيس الوزراء آنذاك إلى منع المستثمرين من مغادرة بلاده لمدة عام كي يستعيد الاقتصاد عافيته، وبعد انقضاء فترة المنع فتح المجال لمن يرغب من المستثمرين بمغادرة البلاد، فما كان منهم إلا أن تراجعوا عن قرارهم السابق وآثروا البقاء ومتابعة الاستثمار في ماليزيا..!.

المطلوب إستراتيجية واضحة

أمام هذا الواقع فإن قطاع الأعمال مدعو أكثر من أي وقت مضى إلى تدعيم أواصره، وتحديد إستراتيجية واضحة تستهدف النهوض الاقتصادي، فهو بالنهاية جزء مهم من النسيج الوطني بما له وما عليه، ونعتقد أن أولى الخطوات بهذا الاتجاه تمثل بالكفّ نشر رؤاهم الاقتصادية العرجاء على وسائل التواصل الاجتماعي المغرقة بعبارات الإنشاء الأجوف والهش، والاستعراض السطحي، والتوافق بين اتحادات الغرف والعمل ضمن منهجية تكاملية، ونبذ الخلافات الشخصية فيما بينهم التي أخذت أحياناً أشكالاً من “الصراع” المذموم إن صح التعبير، والمؤسف أكثر أن تُصدّر هذه الخلافات إلى الأروقة الحكومية، خاصة إذا ما علمنا –ومن خلال تقاطع ما بحوزتنا من معلومات أفضاها إلينا بعض رجال الأعمال- أن “الصراع” بين المنضويين تحت هذه الشريحة على أشده، فهذه الشريحة لا تختلف كثيراً عن بقية الشرائح لجهة ما يتملك أصحابها -وتحديداً الكبار منهم- نوازع المكائد لبعضهم البعض، والمتمخضة -أغلب الظن- عن مساعي كل منهم بالتقرب من السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة وبعض مفاصلها المتنفذة بداية، بقصد تسيير صفقات من فوق ومن تحت الطاولة لاحقاً..!.

غالباً ما يكون الكتمان سمة هذا النوع من الصراعات، ولا يظهر للإعلام إلا نادراً وعلى شكل مناكفات تأخذ من المصلحة الوطنية والحفاظ على المال العام غطاءً لها، ما ينعكس بالنتيجة على الواقع الاستثماري عموماً، الذي سيكون ضحية المصالح الضيق، وعلى اعتبار اشتراط من التقيناهم من رجال أعمال -لدى محاولتنا التقصي عن هذه الخلافات- عدم ذكر أسمائهم نبين أن ما أدلوا به تجاه زملائهم يتعدى مصطلح “الصراع” إلى “المكائد”، إذ يستشف من حديثهم أن المسألة لا تتعدى نطاق الخلافات الطبيعية، وأن الواقع يؤكد أن الأمر أكبر من الخلافات التي تعكس جو المنافسة المطلوبة لتغذية الاقتصاد الوطني بما يحتاج من استثمارات تمتن أواصره، بدليل أن الأجواء المشحونة حالياً بين رواد قطاع الأعمال لا تقتصر بين اتحادات الغرف فقط، بل ضمن الاتحاد نفسه، فهناك حالياً بعض من أعضاء إحدى الاتحادات منقسمين فيما بينهم، لدرجة أن فريقاً يتحالف –إن صح التعبير- مع نظير له من اتحاد آخر ضد رئيسه..!.

يضاف إلى ذلك سرعان ما يتبارى كبار رجالات هذه الشريحة بسل سيوفهم بوجه من يحظى بمطرح استثماري دسم هنا، أو يحقق نجاحاً لفعالية اقتصادية هناك، ليبدأوا بفتح ملفاته علّهم يعثرون على ارتكاب ما أو حتى زلة قلم أو لسان له، خاصة إذا ما اعتُبر هذا النجاح تعدي على اختصاص الغير..!.

طبعاً هذه الخلافات ليست وليدة اللحظة بل هي نتاج تراكمي من مساعي هذه الشريحة تجاه تحقيق أكبر قدر من المكتسبات الاقتصادية من جهة، والرضا الحكومي من جهة ثانية، وتأخذ هذه الخلافات حالياً منحى تصاعدياً مع اقتراب انتخابات الاتحادات، جاهلين أو متجاهلين ضرورة توحيد الصف بما يخدم التنمية المستدامة التي من المفترض أنهم شركاء حقيقيون بها..!.

انتبهوا..!.

نعتقد أيها السادة أنه أياً يكن ما أصاب استثمارنا من تشوهات هنا وتراجع هناك، إلا أن سورية لا تزال أرضاً خصبة للاستثمار، لما تمتلكه من مقومات جغرافية وبشرية ومقدرات طبيعية، يضاف إليها التنوع الفسيفسائي للاقتصاد السوري، من زراعة وصناعة وتجارة وسياحة، ولعلنا نتفق معكم بأن المطلوب في هذه المرحلة إعداد المدخل الرئيسي للاستثمار عبر تعبيد الطريق أمام الإعمار المرتقب من تشريعات وقوانين أولاً، وتأمين البنية التحتية الاستثمارية المتمثلة بالدرجة الأولى بتعزيز ثقافة العمل الحر ثانياً، والأهم التركيز على الاستثمار الإنتاجي وليس الريعي، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الوضع الاقتصادي في سورية ومدى منافسته للمنتجات الأجنبية، بمعنى العمل باتجاه إنعاش صناعات يمكن المنافسة فيها، كالصناعات الغذائية، والألبسة، والصناعات التحويلية، وكذلك الأدوية التي ما زالت مستمرة رغم ما طالها من تداعيات لم تعد تخفى على القاصي والداني.

وفي هذا المقام نوجه رسالة لمن يتقن القراءة الحقيقية للاستثمار، والتي ينجم عنها – في غالب الأحيان- سباق غير معلن لاقتناص الفرص الخام للاستفادة منها لاحقاً وتحقيق إيرادات غير مسبوقة، مفادها أن الاستثمار في أوقات الأزمات ينتج قطاعات وفرص استثمارية لم تكن بالحسبان، بمعنى أنه في ظل العقوبات الاقتصادية يتم البحث عن بدائل للمستوردات، عبر الاعتماد على الذات وتفعيل القطاعات الإنتاجية الكفيلة بتوفير هذه البدائل، وهنا على هيئة الاستثمار السورية المتابعة مع المحافظات والوزارات المعنية لتأمين خارطة استثمارية بفكر وصناعة ورؤى جديدة تُعرض على من يرغب، مع المتابعة والتحديث المستمرين لها لمعرفة الموارد ولإمكانيات الموجودة، وتحديد أولويات التنمية والفرص الاستثمارية المدروسة وفق معايير الجدوى الاقتصادية، مع الإشارة إلى أن سورية بلد الفرص المتوسطة والصغيرة والتعويل دائماً عليها، وليس على المستثمر الذي يتجه نحو المشاريع النوعية ذات التكلفة العالية لتحقيق عوائد سريعة (مصارف – عقارات – سياحة..الخ).

أخيراً..

نشير إلى نقطتين الأولى: نعتقد أن ماضينا متخم بدروس وعِبَر تقينا الوقوع في مطبات من أتقنوا تجيير (كعك المواقع الاستثمارية) لصالح جيوبهم، وبالتالي أمام سلطتنا التنفيذية سيناريو إعمار استثنائي ويحتاج إخراجه جهوداً استثنائية بامتياز حتى يكون بمستوى الطموح المرتقب، تفادياً ألا أيكون القادم أسوأ.

الثانية: إن المرحلة التي كانت فيها الدولة السورية بمثابة الأب الذي يرعى المواطنين والمنشآت الاقتصادية عبر دعمها للمحروقات وغير ذلك من وسائل الدعم التي كانت تقدمها لقطاع أعمالنا، دفعتنا حقيقة للحديث عن الدور المتوجب أن يضطلع به رجال الأعمال في هذه المرحلة الحرجة والتي تستدعي أن تكون فعاليات هذا القطاع على قدر كبير من تحمل مسؤولياتها، لا أن تهاجر بعد أن قطفت ثمار امتيازات ما كانت تحققها في كثير من دول العالم، خاصة تلك التي نشأت وترعرعت من ألفها إلى يائها في ظل حماية ورعاية حكومية، وللإنصاف نذكر أن بعض رجال أعمالنا ممن لمعت أسمائهم وشهرتهم الاقتصادية في بلاد الاغتراب، لم يتنكروا لبلدهم في ظروفها الحالكة فقدموا مبادرات إنسانية وخدمية للمتضررين على اعتبار (ما حك جلدك مثل ظفرك).