كما احتضنته دمشق تودّعه.. رحيل النّواب يحييه من جديد
لم يكن وداع مظفّر النّواب في فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب عادياً، بل كان أقرب إلى بوح شفيف ورهيف للنّواب ذاته كما لو أنّهم يلتقوه بعد غياب، فبدأوا بتحريض ذاكرته على استعادة جلساتهم معه وضحكاتهم وعدد فناجين القهوة التي احتسوها برفقته بمقهى “الهافانا” وحيي الميدان وبرزة في دمشق ومقاهي بيروت وطرابلس والشّارقة آخر المدن العربية التي احتضنته مريضاً يعتني به شابٌّ سوريٌّ من دير الزّور اسمه “حازم”. تقول نبيلة وهبي رئيس جمعية “ريشة ونغم” التي أبت إلّا القدوم من بعلبك والمشاركة بوداع النّواب في عاصمة عربية شعر فيها بالأمان: موت مظفّر النّواب أحياه من جديد، لأنّ الفترة التي كان مريضاً فيها كانت النّاس تترقب من دون أن تعرف تفاصيل عن مرضه وحالته الصّحية.. العظماء ماتوا ولم يتذكرهم أحد لكنّ الشّعراء يعيشون فينا، قبل المتبني وبعده وليوم مظفر النّواب وبعده.. كانت معرفتي بالنّواب يومية تقريباً، كان إنسانيا ومجبولا بالحبّ والعاطفة والثّورة، وفي مرحلةً من حياته كان يتضايق من كثرة الحبّ بين أهله، وعندما فقد هذا الحبّ عاد ليبحث عنه ولم يعد ينزعج من حبّنا له واهتمامنا به وبأكله وأدويته.. كنت والسيّدة سحر قوّاس نهتم به ويهتم بنا يلقي الشّعر ونغنّي ويشرح لنا تعابير عراقية لم نكن نفهمها في شعره، وكان يحكيها باللهجة السّورية لأنّه رأى الأمان في سورية واستعاض عن نخيل بغداد بفي ياسمينها.. لقد رسم طريقاً شعر بالنّهاية أنّه لن يوصله إلى أي مكان وأنّ هناك حقائق لا نعرفها وأنّ الحقيقة الوحيدة هي الموت، مضيفةً: لقد زرته في الشّارقة.. كان متعباً لكن قلبه ينبض ويفهم ويحسّ بنا، وكان إلى جواره شاب سوري من دير الزّور اسمه حازم هو الذي رافقه في تلك الفترة ولم يتركه أبداً وأعتقد لو كان لمظفّر النّواب ابن لما كان بحنان حازم وحبّه له وخوفه عليه.
وها هو يعود مجدداً إلى العراق كما كانت وصيته الأخيرة التي يذكرها الدّكتور محمود جدوع القادم من العراق أيضاً ليقول كلمةً طيبة بحق صديق أحبّ دمشق وأحبّته: النّواب كان مجبولاً بطيبة العراق وكان شهماً جدّاً لدرجة أنّه ضحّى بكلّ ما يملك، ولم يقبل أيّ شيء من أي أحد، على الرّغم من كثرة ما قدّم له من مال ومناصب، وكان ردّه في إحدى المرّات بأنّه يريد جواز سفر فقط ليتنقل به لأنّه لم يشأ يوماً أن يكون مثل غيره.. أراد فقط أن يكون شاعراً يحبّ التّشكيل والرّسم والغناء بصوته الجميل.. يغني ويبكي في جلساتنا الخاصّة.. لقد سار بطريقٍ موحشٍ قلّ سالكوه وكانت وصيته أن يدفن ووجهه إلى العراق.
وصيّة نفّذها العراقيون بحزن وإخلاص كما كان لهم دائماً، يقول رئيس اتّحاد الكتّاب العرب في العراق نجاح المعموري في رسالةٍ صوتية أرسلها إلى القائمين على النّدوة: أذكّر بأنّ اتّحاد الأدباء العراقي قد أعاد صياغة فجيعة العراقيين بوفاة مظفر إلى استذكارية تمجيدية عظيمة لشاعر الانتماء والمقاومة الذي ساهم بشكلٍ جوهريّ مباشر بتأهيل وتربية جيل الشّباب حول الحقائق المقترنة بالهوية العراقية والانتماء، لقد تحوّلت قصائده الشّعبية إلى خزّان وذاكرة تتردد في الاحتفالات والمناسبات.. غيابه كان قاسياً لكنّ خزان ذاكرتنا ممتلئ بقدراته.. سنتذكره ونحتفي به دائماً.
بدوره، قال ياسين شريف القائم بأعمال السّفارة العراقية في دمشق: لقد اختار مظفّر النّواب دمشق في فترات عدّة من حياته مسكناً ومستقراً ونشط فيها وتلقى الرّعاية والاهتمام من قبل القيادة السّورية آنذاك وعلى رأسها الرّئيس الرّاحل حافظ الأسد وعاش فيها فترةً من الزّمن متنقلاً بين مقاهيها ومنتدياتها مترنماً:
دمشق عدتُ بلا حزني بلا فرحي يقودني شبح مضنى إلى شبح
ويتابع شريف: تعوّد النّواب الغربة وأصبحت جزءاً من كينونته بعد أن أصبح ملكاً لكلّ عربي مقاوم حاملاً قضيته على كتفه وناطقاً بلسانه، حتّى فضّل البقاء مهاجراً على العودة والاستقرار مع أنّ الحكومات المتعاقبة في العراق بعد عام 2003 عرضت عليه العودة إلى بغداد ليأخذ مكانه الذي يستحقّ في مقدمة المشهد الأدبي.
قد يكون النّواب من الشّعراء القلّة الذين نالوا ثقة الحراك الثّقافي العربي على اختلاف المشارب والمآرب، يقول الكاتب سالار أوسي في كلمة حزب الاتّحاد الوطني الكردستاني بدمشق التي ألقاها نيابةً عن رئيس الحزب عبد الرّزاق توفيق: من النّادر أن نلقى شخصاً مثل مظفّر النّواب لجهة تصالحه مع ذاته ومع قناعاته ومبادئه طيلة مراحل عمره المديدة، فهو ومنذ بدايات شبابه كان مناضلاً شرساً في سبيل مشروعه الإنساني وباحثاً في العدالة الاجتماعية التي فقدها في وطنه ولم يعثر عليها في كلّ المنافي التي قضى فيها أكثر من نصف عمره مثقلاً بالتّعب والحزن والوجع، وعلى الرّغم من أنّ الزّمن حاصره في مراحل متعددة وفي أكثر من جغرافيا عاش عليها إلّا أنّه ظلّ وفياً لقناعاته التي أعطاها كل حياته وكان الضّمير المعبّر عن صرخة النّاس في كلّ مكان حاملاً الهمّ السّياسي بشكلٍ دائم الحضور في أعماقه ولم يتعال يوماً عن قضايا النّاس ولم يساوم على مبادئه ومواقفه الواضحة وظلّ وفيّاً لهذا الشّكل من الحياة حتّى آخر لحظات عمره، واختار أن يدفع ثمن مواقفه من دون خجل أو خوف فظلّ فارس الكلمة وفارس الموقف.
ذكريات كثيرة ومشاعر جيّاشة ودموع سخية غلبت على كلّ الكلمات، يقول الشّاعر توفيق أحمد نائب رئيس اتّحاد الكتاب العرب: لا أحد في سورية ينسى ما قاله مظفّر النّواب بحقّ دمشق وأكرره لأهميته القصوى في ضمير الشّعب السّوري: “دمشق شقيقة بغداد اللدودة.. ومصيدة بيروت.. وحسد القاهرة.. وحلم عمان.. وضمير مكّة المكرمة.. وغيرة قرطبة.. ومقلة القدس.. ومغناج المدن.. وعكاز تاريخ عريق لخليفة هرم”.. أيّها الرّاحل الكبير هل أقول ماقاله رياض النّعماني: مات الملك وماتت المعجزة والعزّ والكبرياء والنّخل.. مات مظفّر النّواب؟.. وهل أقول حنّ وأنا حنّ؟. النّواب ألقى على الأمن الثّقافي الوداع.. من المؤكّد أنّ مظفّر لم يكن ضيفاً عابراً وهو الذي حفر اسمه على صخر من الصّعب أن يمحوه الجدل..
الجميع لديه ذكريات مع مظفّر النّواب، البعض من خلال ما تيسّر له من تسجيلات “الكاسيت” والبعض من خلال لقاء وحيد أو لقاءات عدّة، لكن الملفت هو أنّ معظم الحاضرين يحفظون شعر النّواب الفصيح منه والمحكي، يقول الدّكتور عبد الله الشّاهر عضو مجلس اتّحاد الكتّاب الذي ألّف كتاباً عن النّواب في عام 1997: مظفّر النّواب يعني أنّنا نومئ إلى إرثٍ ثقافي راسخ لايزال يتواصل مقترناً بالحلم في التّغيير والثّورة وبكلّ ما هو مضاد للخنوع والتّصالح.. يعني أن نلامس “وتريات” الخيبة الممتدة كالصّحراء العربية.. ذاكرة وعي لأجيالٍ متعاقبة لأنّه إن قال شعراً فصيحاً ألهب المشاعر وإن قال شعراً شعبياً ألهب العواطف وأصبح أغنية..
وعلى الرّغم من أن رئيس فرع دمشق لاتّحاد الكتذاب العرب الدّكتور إبراهيم زعرور قدّم كلمة مقتضبةً، تاركاً المجال والوقت للضّيوف، ولأنّ الذّكريات تجرّ الذّكريات، تحدّث باختصارعن لقائه بالنّواب في طرابلس الليبية، يقول: كنت بمهمة رسيمة إلى ليبيا حين كنت بقيادة اتّحاد شبيبة الثورة في ثمانينات القرن الماضي، وقال لي أحدهم إنّ مظفّر النّواب مشتاق لدمشق وإنّه ممنوع من السّفر إليها، فأجبته من قال لك ذلك؟ والتقيت النّواب وكا لقاء جميلاً، وعندما عدت إلى سورية اتّصلت بوزير الإعلام آنذاك أحمد اسكندر أحمد وأخبرته بما حصل وقال لي أعطني ربع ساعة وبعدها أخبرني بأنّ مظفّر مرحّب فيه بأي وقت بدمشق، طبعاً عرفت لاحقاً أنّه استأذن السّيد الرّئيس الرّاحل حافظ الأسد.. من هنا تبدو دمشق فعلاً حاضن لكلّ الأحرار والمبدعين والمثقفين لأنّها حاملة رسالة وطنية وعروبية وإنسانية.
نجوى صليبه