مصر على رأس الدول المتضررة… الهند تحظر تصدير القمح
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
يعد القمح يوماً بعد يوم كأحد السلع الاستراتيجية القادرة على إعادة تشكيل خريطة الأمن الغذائي العالمي، وأحد الأسلحة الفتاكة بأيدي القوى الكبرى لتمديد نفوذها وتوسيع حضورها الدولي وترجمة أجندتها التوسعية، لاسيما إزاء دول العالم الثالث وشعوبها النامية التي في الغالب تمثل السوق الأكبر لمصالح الكبار.
وقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة هذا الملف للأضواء مرة أخرى بعد التحذيرات الواردة من المنظمات والهيئات الأممية بمخاطر تعثر إمدادات القمح في ظل امتلاك طرفي الحرب لقرابة ثلث حجم التصدير العالمي من الحبوب عامة، والحديث عن اتساع رقعة الجوع الذي يهدد مئات الملايين من الدول التي تعتمد على القمح كسلعة أساسية. وبالتالي،أثبتت الهزة التي أحدثها القمح على المستوى العالمي وسُمع دويها من أقصى يمين الأرض ليسارها ومن أبعد نقطة في الشمال إلى أدناها جنوباً، علاقة الترابط القوية بين هذه السلعة والحسابات السياسية للقوى الكبرى، إذ تحول السلاح الأخضر إلى أداة هيمنة ونفوذ أكثر منها مكوناً داخل منظومة الأمن الغذائي.
لأفريقيا النصيب الأكبر
وفي الوقت الذي تنعكس فيه أزمة القمح على كل دول العالم من حيث نقص الإمدادات وإرتفاع أسعاره، إلا ان لأفريقيا النصيب الأكبر من تبعات هذه الازمة الغذائية، خاصة مع حظر الهند على تصدير قمحها ما يجعل من الصعب إنتاج الخبز واستهلاكه في إفريقيا. فقد شهدت إفريقيا ،كما شهد العالم برمته، إرتفاع مفاجئ في سعر القمح ما إنعكس بشكل كبير على استهلاك الخبز، حيث ارتفع سعر طن القمح في السوق الأوروبية إلى أكثر من 438 يورو، أي ضعف قيمته قبل اثني عشر شهراً. وبالنسبة للسوق الأفريقية، لم يتم بعد تحديد الإحصاءات بشكل واضح، والأمر لا يتعلق بسعر الخبز فقط بل هناك أيضاً نقص في كميات الدقيق. ففي توغو،على سبيل المثال، إرتفع سعر رغيف الخبز الفرنسي من 100 فرنك أفريقي، حوالي 2 دولار إلى 125 أو 150 فرنكاً أفريقياً، حوالي 2.5 أو 3 دولارات. في 18 آيار الفائت، لم يتمكن العديد من سكان توغو من العثور على الخبز لشرائه. ووفقاً للأرقام التي قدمتها الأمينة العامة لإتحاد مخابز فيينا الوطني في توغو فإنه من أصل 300 طن من دقيق القمح التي كانت تُطرح بانتظام في السوق الوطنية، يتم تسويق ثلثها فقط يومياً منذ الصراع الروسي الأوكراني ،وحذرت من أن الاضطرابات في سلاسل الإنتاج والإمداد ونقل الحبوب والبذور الزيتية، والعقوبات المفروضة على الصادرات من روسيا، سيكون لها تداعيات كبيرة على الأمن الغذائي.
في ظل هذا الوضع، يتساءل المراقبون، ألا توجد حلول أفريقية لاستخدام القمح يمكن أن تخفض الأسعار؟. ورداً على هذا التساؤل، يشير بعض خبراء الاقتصاد الى ضرورة تغيير عادات الأكل، ويوصون بـ “التخلي النقي والبسيط عن الخبز” لصالح الدخن، والعصيدة، والكعك، المصنوع من الحبوب الأخرى مثل الذرة. في حين يشرح خبير في فن الطهو الأفريقي كيف يمكن تخفيف إستخدام الدقيق باستخدام أنواع دقيق أخرى مثل دقيق الكسافا والذرة الرفيعة، لإنتاج الخبز والكعك والمعجنات الأخرى، مؤكداً أنه لدى الخبازين إمكانية لإنتاج منتج بنفس الجودة، على سبيل المثال، من خلال تقليل محتوى دقيق القمح بنسبة 80 إلى 85٪، وإضافة ما بين 15 و20٪ أنواع طحين أخرى. ويخلص إلى القول بأن إستخدام كميات أقل من دقيق القمح، يمكن تثبيت سعر الخبز وإرضاء المستهلكين، موضحاً أنه نظراً لوجود وصفات مصنوعة في الماضي، باستخدام دقيق القمح فقط، يمكن أن تكون أكثر نجاحاً مع الدقيق المحلي، على سبيل المثال، لصنع الكعك، لا تحتاج بالضرورة إلى دقيق القمح، بل يكفي دقيق الذرة الرفيعة أو دقيق الذرة وهذا ناجح بنسبة 100٪ للفطائر والبيتزا. هذا يعني أنه في مواجهة نقص دقيق القمح الذي يرفع سعر الخبز، فإن الحلول موجودة، وما علينا سوى تبنيها، بحسب الخبير.
قرار الهند المقلق
هكذا أحدث قرار الهند حظر صادرات القمح حالة من القلق لدى سوق القمح العالمي وسط مخاوف من موجة تأزم جديدة جراء قفزة متوقعة في أسعار السلعة الإستراتيجية الأهم في هرم الغذاء العالمي. وقد عزت الهند هذا القرار إلى موجة الحر الشديدة التي هبت على البلاد فأثرت بشكل أو بآخر على إنتاجية القمح هذا العام، لتتراجع معدلات الإنتاج المتوقعة عما كان مخطط لها قبل ذلك، فضلًا عن الاضطراب التي أحدثته في السوق المحلي بعد إرتفاع الأسعار إلى أعلى مستوياتها.
ويأتي هذا التحرك بعد أيام قليلة من مطالبات برلمانية بحظر صادرات القمح خشية تهديد الأمن الغذائي الهندي الذي يتوقع أن يتعرض لمخاطر وتحديات خلال المرحلة القادمة في ظل الزلزال الذي ضرب الاقتصاد العالمي في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 شباط الماضي. وبحسب الحكومة الهندية، فان هذا القرار لا يسري على خطابات الائتمان الصادرة بالفعل لبلدان بعينها كانت قد أبرمت عقود استيراد القمح من نيودلهي، لكنه يتعلق بالإمدادات المستقبلية والطلبات المقدمة من بعض الحكومات التي لم يتخذ بشأنها أي قرار رسمي.
هذا وكانت تعول حكومات الدول التي تعاني من أزمة في إنتاج القمح على الهند في تقليص حجم المخاطر الناجمة عن الأزمة الأوكرانية، لا سيما بعد التصريحات الرسمية الهندية التي كانت تستهدف شحن 10 ملايين طن من القمح هذا العام، لتلبية احتياجات الأمن الغذائي للبلدان الأكثر تضرراً.
وبالتالي، يعاني العالم من أزمة قمح خانقة جراء الحرب المستعرة الآن في أوكرانيا، فالطرفان المتنازعان، موسكو وكييف، يتحكمان وحدهما في 30% من إجمالي صادرات الحبوب في العالم، حيث تصدر روسيا سنوياً 37 مليون طن قمح، وأوكرانيا 18 مليون طن، هذا بخلاف الشعير والذرة، كما يستحوذان على 52% من سوق تصدير زيت عباد الشمس في العالم.
ورغم أن الهند لم تكن من كبار مصدري القمح في العالم، فقد كانت حلاً وبديلاً إستراتيجياً يمكن الوثوق به لتخفيف مخاطر الأزمة، وتعويض تعطل شحنات القمح الروسي والأوكراني ولو بنسب بسيطة، إلا أن الأمور إزدادت تعقيداً بعد قرار حظر التصدير، الأمر الذي من المرجح أن تكون تبعاته قاسية جداً على العديد من الدول التي كانت تعول على القمح الهندي في الوقت الراهن.
القمح الهندي أرقام قياسية.. ولكن
تحتل الهند المرتبة الثانية في قائمة الدول الأكثر إنتاجاً للقمح، إذ بلغت معدلات الإنتاج 107.5 مليون طن خلال عام 2021، فيما قدرت الحكومة أن الإنتاج سيصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق هذا العام بوصوله إلى 111.32 مليون طن.
وعلى مستوى الصادرات فقد ارتفعت الصادرات من القمح من 2.1 مليون طن خلال عام 2020 إلى 7.85 مليون طن حتى آذار الماضي، بزيادة قدرها 250%، حيث استفادت البلاد من القفزة الهائلة في أسعار المحصول في أعقاب التوترات الحاليّة بما يُنعش الخزانة العامة للهند ببضعة مليارات أخرى تساهم في علاج الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد منذ تفشي جائحة كورونا.
وكان هناك مخطط لدى الهند لتعزيز حجم صادراتها هذا العام، إذ تم شحن ما بين مليونين وثلاثة ملايين طن من القمح خلال الأسابيع الماضية، فيما تم توقيع عقد تصدير لثلاثة إلى ثلاثة ملايين ونصف مليون طن من القمح بالنسبة للفصل نيسان-حزيران، بحسب وزير التجارة والصناعة، بيوش غويال، الذي ذكر أن الحكومة استحوذت العام الماضي على رقم قياسي بلغ 43.34 مليون طن من القمح من المزارعين المحليين، وهو الرقم الذي يزيد عن كميات الاستهلاك المطلوبة بما يسمح بتصدير الفائض.
ثلاثية الحرارة والتضخم والحمائية الغذائية
لم تكن الحرارة هي السبب الوحيد وراء قرار حظر تصدير القمح الهندي، إذ دفع الارتفاع الجنوني في أسعار الغذاء والطاقة إلى إحداث زيادة كبيرة في معدلات التضخم في البلاد التي وصلت إلى أعلى مستوياتها خلال السنوات الثمانية الأخيرة، ما دفع البنك المركزي إلى التفكير جدياً في رفع أسعار الفائدة لكبح جماح الأسعار وهو ما سيكون له تبعاته السلبية على السوق وحركة التصدير والاستيراد.
كما إرتفعت أسعار القمح ذاتها داخلياً إلى مستويات قياسية، بلغت 25 ألف روبية، أي 320 دولار للطن، مع العلم أن سعره الرسمي لم يتجاوز 20150 روبية (260 دولار)، هذا بخلاف إرتفاع تكاليف الوقود والعمالة والنقل والتعبئة، التي ألقت بظلالها القاتمة على الأسعار المحلية. وبالتالي، دفع الثالوث العصري، التضخم والعوامل المناخية والحمائية الغذائية، نيودلهي إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها التي أقرتها قبل ذلك بشأن خريطة تجارتها الخارجية فيما يتعلق بمحصول القمح تحديداً،وبقية المحاصيل الأخرى الأقل أهمية في هرم الأمن الغذائي.
من جهته،أرجع الخبير الاقتصادي الزراعي بجامعة إلينوي، سكوت إيروين، قرار الحظر إلى القفزة الحادة في الأسعار التي دفعت الحكومات لحماية الإمدادات وخفض الأسعار المحلية عبر سياسة الحمائية الغذائية بالحفاظ على ما لديها من مستلزمات ومحاصيل ومواد استهلاكية، مستشهداً ببعض الدول التي لجأت إلى حظر تصدير بعض السلع منها إندونيسيا التي حظرت زيت النخيل، وكازاخستان التي حظرت القمح والدقيق، كذلك الأرجنتين التي حدّت من صادرات اللحوم والمواد الغذائية.
وبالنظر إلى خريطة القمح العالمية يلاحظ أن هناك خمس دول كبار يهيمنون على تصدير تلك السلعة الإستراتيجية،تأتي روسيا في المقدمة بـ 17.6% من إجمالي صادرات العالم، تليها الولايات المتحدة بـ 14%، ثم كندا في المرتبة الثالثة بالنسبة ذاتها، تليها فرنسا رابعاً بمعدل 10% ، ثم أوكرانيا بـ 8%.
وبعد المستجدات الأخيرة التي دفعت أوكرانيا إلى تعطيل صادراتها بجانب موجة الجفاف القاسية التي ضربت الولايات المتحدة وفرنسا، فضلاً عن التضخم والحرارة، وهي جميعاً عوامل أجبرت الهند على إعادة النظر في مخطط الهيمنة على السوق كبديل جاهز، حيث ستصبح روسيا وكندا البلدان الأكثر استفادة من الوضع الحاليّ ويتوقع أن يهيمنا على سوق تجارة القمح العالمية هذا الموسم.
وفي الجهة المقابلة فإن دول إفريقيا وآسيا ستكون على رأس الجهات الأكثر تأثراً بالقرار الهندي، إذ كانت تعول حكومات تلك الدول على نيودلهي في تعزيز الإمدادات من القمح هذا العام لحين تهدئة الأجواء في أوكرانيا واستعادتها، إلى جانب روسيا، نشاطها التصديري مرة أخرى. وتأتي مصر على رأس الدول المتضررة من التحرك الهندي، حيث تستورد الحكومة المصرية نحو 12 مليون طن من القمح سنوياً بما نسبته 10.6% من إجمالي صادرات القمح العالمية، لتحتل مرتبة الصدارة ضمن كبار مستوردي العالم من هذا المحصول الذي تستهلك منه كل عام قرابة 18 مليون طن، وكانت القاهرة قد استقبلت الشحنة الأولى من القمح الهندي قبل أيام، لكن بعد قرار الحظر تبقى الأمور ضبابية في إنتظار مستقبل الإعتماد على القمح الهندي خلال المرحلة القادمة.
في حين يرى المسؤول التنفيذي في مؤسسة “ميديا ريفيو نت ورك” للأبحاث في جوهانسبرغ، إقبال جسات، أن إفريقيا ستكون القارة الأكثر تضرراً من أزمة الغذاء العالمي الحاليّة التي تعمقت بعد الأزمة الأوكرانية،مرجعاً ذلك إلى إعتماد القارة الإفريقية على المصادر الخارجية للإمدادات الغذائية الأساسية مثل القمح وزيت الطهي النباتي والوقود. وفي سياق متصل، أوضحت رئيسة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، ريباكا غرينسبان، أن ارتفاع أسعار الغذاء والوقود سيؤثر على الفئات الأكثر ضعفاً في البلدان النامية، ما يزيد الضغط على أفقر الأسر التي تنفق الجزء الأكبر من دخلها على الغذاء، ما سيؤدي في نهاية الأمر إلى المشقة والجوع.