سوق السقطية بحلب يحصد الجائزة الكبرى في إيكروم-الشارقة
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
حلب الشهباء الساحرة منذ أكثر من 7000 سنة، ما زالت تتألق عربياً وعالمياً، وتجذب إلى معالمها التراثية الإنسانية المادية واللا مادية قلوب البشرية، لتتعرف على ألغازها المتحدية للظلمات والمنتصرة أبداً على الظلاميات، وها هي تتكرم في (02/06/2022) في جائزة إيكروم – الشارقة الخاصة بالممارسات الجيدة في حفظ وحماية التراث الثقافي في المنطقة العربية، لفوزها قبل عامين بالجائزة الكبرى عن فئة “المباني والمواقع الأثرية”، من خلال مشروع إعادة تأهيل سوق السقطية بحلب، وهو أحد أسواقها الشعبية المحيطة بقلعة حلب والمدينة القديمة.
فهل نتوقع أن يقام احتفال مركزي في كل من دمشق وحلب وبقية المحافظات بهذه المناسبة ويتم من خلاله تكريم الجهات المتشابكة في هذا الإنجاز؟
ستظل أسرار التراث لغزاً
ونتيجة حرص وطننا سورية على هذه الذاكرة وأسرارها عبْر الأزمنة، فإن إعادة البناء أصبحت هاجس الجميع بدءً من الجهات المختصة والمعنية وصولاً إلى الأفراد الراغبين في التألق الدائم والمستدام لذاكرتهم المكانية الثقافية الحضارية المعبّرة عن هويتهم العربية السورية وإبداعاتها في كافة المجالات، ومنها التراث المادي واللا مادي الذي اعتبرته منظمة اليونسكو تراثاً إنسانياً عالمياً، ونراه متفرداً في حلب القديمة بين قلعتها وقدودها ونسقها الاجتماعي الفسيفسائي.
وهذا الإصرار المتوالي على الحياة، واستنبات الحياة من كافة أشكال الموت، هو أحد ألغاز وأسرار سوريتنا الحبيبة، ومنها حلب الحيوية المتعانقة مع الحركة المتسارعة للبناء في كافة مجالاته، ومع عودة أغلب أسواق حلب القديمة إلى نبضاتها وتفاعلها مع الحاضر، رغم معاناتها من التدمير الإرهابي الممنهج.
وضمن هذه المؤشرات اللامعة بالمستقبل، ومنها حصول سوق السقطية على الجائزة الكبرى في إيكروم الشارقة، تساءلت “البعث الأسبوعية” عن أهمية حضور السوق كتراث ثقافي محلي وعربي وعالمي إنساني في هذا العالم، وماذا يعني فوزه بهذه الجائزة؟
عملية تكاملية
استهلّ الدكتور المهندس صخر علبي الأستاذ الجامعي ومدير الآثار والمتاحف بحلب إجابته بقوله: يقع سوق السقطية وسط المحور الرئيسي لأسواق المدينة ذات العلاقة بالتأريخ العمراني والثقافي لحلب، والانطلاقة كانت منه لأنه كان أقل الأسواق تضرراً، والأعمال التي تمت حققت المعايير العالمية والسورية في الحفاظ على التراث وهويته بالتعاون مع جميع الجهات المتشابكة ومنها مديرية الآثار والمتاحف المشرفة على الأعمال، ولجنة من محافظة حلب، كما تمّ ترميمه من مؤسسة الآغا خان، من خلال مهمتها المتعلقة بالمظهر الخارجي، الموزعة إلى واجهات المحلات والأسقف والأسطح، بينما الأمانة السورية للتنمية فأقرضت ومنحت أصحاب المحلات لتشجيعهم على إعادة إحياء محلاتهم والعودة للعمل، أمّا البنية التحتية من كهرباء وماء واتصالات وغيرها فقامت بها الجهات المختلفة بالتنسيق مع المحافظة والأمانة السورية للتنمية، وكانت تعقد لقاءات مع أصحاب المحلات من أجل الترميم.
السوق بطابقين
وأضاف د. علبي: ويفترض فيما بعد الاهتمام بالطابق العلوي، المتوضع فوق الدكاكين، لأن سوق السقطية يتميز بطابقين، وحتى الآن لم يهتم أحد بهذا الطابق الذي كان عبارة عن محلات حرفية تنتصب فوق الدكاكين على طول السوق، وما زالت مساحات هائلة منه لم تستثمر بعد، بينما سوق الزرب، مثلاً، فهو بطابق واحد رغم أنه الأقدم.
تكريم للهوية الحية
واختتم: لقد فاز العمل بجدارة لأنه أعاد السوق كما كان محافظاً على هويته الممتدة لقرون عديدة، وأشكر جميع الأطراف ومساهماتهم، لأن الجميع يعمل تحت سقف الأمانة السورية للتنمية مع فريق محافظة حلب والمديرية العامة للآثار والمتاحف ووزارة الثقافة بين منهج استراتيجي وتخطيطي وتنفيذي وتدقيقيّ وإشرافيّ، وما زال العمل مستمراً ووصل إلى سوق الحبال، وأعتبر هذا الفوز بهذه الجائزة تكريماً لحلب، متفائلين بجوائز عربية وعالمية أخرى.
استراتيجية الموقع وهندسة الضوء
وأجابتنا المهندسة ذكرى حجار عضو المكتب التنفيذي لمجلس محافظة حلب: بداية لابد من الإشارة إلى أن سوق السقطية من أهم الأسواق في المدينة القديمة نظراً لموقعه الاستراتيجي الهام لقربه من الجامع الأموي الكبير بحلب، ولتوسطه الشارع المستقيم الممتد من باب أنطاكية غرباً إلى سوق الزرب شرقاً مقابل قلعة حلب الشامخة، وأيضاً، لبنائه المميز وسقفه ذي الطراز المعماري الجميل وأقواسه المدببة وعقوده المتصالبة التي تتخللها فتحات للاضاءة والتهوية والجدران السميكة التي تمنح الرطوبة صيفاً والدفء شتاء.
وتابعت: وقديماً، كانت معظم محلاته تقدم الطعام بأنواعه المختلفة كونه على مقربة من خانات المدينة الكثيرة والكبيرة والغاصة بالتجار القادمين من الصين والهند وأوربا ومختلف الدول لتكون مركزاً تجارياً سياحياً في آنٍ واحد، وحالياً، يضم ٥٣ محلاً تجارياً بضائعها مختلفة الأنواع كالحلويات والمكسرات والتوابل وصابون الغار وحتى اللحوم.
الخبرات الوطنية أحد الأسرار
ولفتت حجار إلى اعتبار إعادة ترميم وتأهيل سوق السقطية أنموذجاً أولياً وتجربة مميزة في إعادة الإعمار للمدينة القديمة، ولكافة الجهات الموقعة على اتفاقية الشراكة نهاية عام ٢٠١٦ ألا وهي محافظة حلب، ومديرية الآثار والمتاحف، مجلس مدينة حلب، الأمانة السورية للتنمية، ومؤسسة الآغا خان للتنمية الثقافية.
وكشفت عن سرّ هام يخص هذه المرحلة من إعادة البناء والإعمار ويميزها بخصوصية شديدة، حين أضافت: والأهم، أن كل الأعمال تمت بخبرات وطنية، وبسواعد العمال والمهندسين السوريين، وعودة نبض الحياة لسوق السقطية هي نقطة البداية لعودة كافة الأسواق التي دمرها الإرهاب الأسود.
رمز للتحدي الأكبر
وأكدت ذكرى حجار: أما بالنسبة لفوزه بجائزة الايكروم على مستوى العالم، والذي نالته مؤسسة الآغا خان في مدينة الشارقة، فهو التحدي الأكبر، فرغم الدمار استطعنا إعادة الترميم وفق الأسس والمعايير الدولية، وبخبرات وطنية، كون مدينتنا القديمة مسجلة على لائحة التراث العالمي عام 1986، ليتصدر التراث السوري الثقافي والمعماري على مستوى العالم رغم الحرب الظالمة من جديد.
علامة فارقة
وبدوره، رأى المهندس الفنان أحمد الغريب مدير قلعة حلب أن الأسواق الأثرية بحلب علامة فارقة اشتهرت بتنوعها وغناها من حيث مفردات عمارتها وأثريتها، وسوق السقطية أحدها، ويمتاز بتوسطه للسوق المستقيم الذي يبدأ بباب انطاكية وينتهي بسوق الزرب قرب قلعة حلب، إلاّ أن هذا السوق تعرض كما معظم النسيج العمراني الأثري للتخريب نتيجة مامر عليه من أذى المجموعات المسلحة، وقامت الجهات المسؤولة بإعادة ترميمه وإحيائه، وشملت الأعمال البنية التحتية، وذلك وفق معايير الترميم الصادرة عن مؤسسة الإيكيروم واليونسكو، كما حافظ ترميم هذا السوق على إعادة إحياء الشخصية التاريخية له، وبذلك فاز مشروع هذا السوق بجائزة الايكروم عام 2021، وبدأ نسغ الحياة يضخ في عروقه بعد عودة أصحاب المحلات، وارتياد الناس.
أطول سوق في العالم مسقوفة مع فلاتر طبيعية
وركّز المهندس محمد مجد الصاري رئيس الجمعية الفلكية السورية وعضو مجلس إدارة جمعية العاديات على عدة مزايا لأسواق مدينة حلب منها أنها أطول سوق مسقوف في العالم بطول 12 كم، وتميزت، ومنذ عام 1868، بسقفها الحجري، المزود بنوافذ وفتحات إدخال النور والهواء، وهي حركة مدروسة بشكل جيد وجميل، لأن السقف ليس على سوية واحدة، وإنما بُني على مستويات متباينة، ففي منتصف كل سوق، وعند كل مفرق لسوق آخر، نجد قبة جميلة مزخرفة مزودة بنوافذ من جميع الجهات، وهي ذات مستوى أعلى من سقف السوق، حيث يتجمع فيها الهواء الساخن والغازات المنبعثة من السوق وتخرج بحركة طبيعية وبشكل علمي وهندسي بديع، ولهذا السقف دور هام في حماية السوق ومن فيه من حر الصيف وأمطار وثلوج الشتاء.
الجمال زمن قياسي للحياة
واسترسل الصاري: السقطية أول الأسواق التي يتم ترميمها في حلب، وفي نهاية هذه السوق يوجد خان الجمرك، ولقد فازت مؤسسة الآغا خان بجائزة دولية “إيكروم الشارقة”، وهي جائزة تمنح لأحسن عمل تم في المنطقة العربية، والفوز بهذه الجائزة يعني لفت أنظار العالم إلى ضرورة الاهتمام بتراث حلب وإعادته كما كان، وكذلك إلى المكانة العالية لأسواق حلب وتراثها، وبوركت الجهود العظيمة والجبارة لجميع المساهمين في إعادة الحياة لمدينة حلب المستمرة في إعادة الإعمار وبزمن قياسي، فبعد السقطية نهضت سوق المجيدية والأحمدية وساحة الفستق وما زال العمل متواصلاً.