على الله تعود
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
في سفرتي الأخيرة إلى دمشق ذهبت إلى مسرح الحمراء لحضور نشاط مسرحي ومررت في طريقي من أمام مقهى الروضة الذي كان إلى فترة من الزمن ليست ببعيدة ملجأ للأدباء والمثقفين من كل المحافظات، وكان شاهداً على الكثير من الأحاديث والاتفاقات بينهم، شاهداً حتى على وشوشاتهم وضحكاتهم، فاكتست ملامحه طابعاً ثقافياً وفكرياً ارتسم حتى على ملامح نُدُله الذين أصبحوا يمثلون جزءاً من المكان، وبالتالي نشأت بينهم وبين رواد المقهى حالة من الألفة حتى أصبحوا يدلون برأيهم في أي حديث يتناهى إلى أسماعهم أثناء خدمتهم لزبائن المقهى، لكن هذا المقهى تحول الآن إلى مقهى عادي يرتاده الناس كاستراحة من تعب أو لموعد ما يتفقون عليه فيه.
وشاءت المصادفة أن يكون طريق عودتي من المسرح من أمام مقهى الهافانا هذا المقهى الذي كان في فترة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي من أهم المقاهي في دمشق وعلامة فارقة من علاماتها، اكتسب حالة فكرية أرستقراطية استمدها من طبيعة رواده، وفي هذا المقهى تعرفت إلى أكثر أدباء ومثقفي سورية والوطن العربي، تحاورت معهم حول الكثير من القضايا الثقافية والأدبية، ونشأت بيننا صداقة كان المقهى كمكان وأشخاص الشاهد الأول على تفاصيلها.
كما شكلت المقاهي الأدبية في الوطن العربي بعداً مهما في مناقشة أبعاد المنابر الثقافية التي كان المقهى واحداً منها ولاسيما في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حيث كان الأدباء يتحاورون ويتناقشون إلى حد كانوا يصنعون القرار السياسي أو حتى الثقافي في المقاهي، وقد حافظ المقهى الأدبي على ترابط الأجيال، وكان منبراً لكل الأفكار ورصد الأحداث والتحولات السياسية التي مر بها الوطن العربي، فالمقهى الأدبي يذكرنا برائحة الزمن وبقصة كفاح الإنسان وشوقه للحوار، هذه المقاهي التي تحكي ألف حكاية وحكاية وتصلنا بالماضي وبنضالات الأدباء والمفكرين وبالسجالات الأدبية والفكرية والسياسية التي دارت وأمتعت وصنعت فكراً وحضارة، وكان كل مقهى من هذه المقاهي يمثل حياة كاملة.. حياة زاخرة بالأفكار والأحداث والشخصيات التي كانت نجوماً للفكر والفن والثقافة، وقد تعرفنا على بعض المقاهي في الدول العربية من خلال الأعمال الدرامية والحوارات مع بعض الأدباء، فالأديب طه حسين كما تروي سيرته الأدبية تربى في كنف أدباء عظام كان يجالسهم في هذا المقهى أو ذاك ويسامر أغلبهم على صفحات ما كتبوه من كتب، فناً كان أم نقداً أم فكراً، وهو لذلك يعتقد أنه نشأ في “عزوة” حقيقية هي التي صنعت روحه ووجدانه، “عزوة” كان قوامها هؤلاء الرجال الكبار من مثقفي مصر.
كذلك كان للمقهى علاقة بمحيطه ودوره الاقتصادي الذي حدد وظيفة المقهى بوصفه مركزاً للاستراحة، ومنبراً للمناقشة في زحمة لا تهدأ ولا تعرف الانضباط، وكان المقهى أيضاً ملتقى للسياسيين تقرباً من الشعب وأبناء المناطق البعيدة وتحديداً فترة الانتخابات، كما كانت المقاهي إضافة لهذا كله مركزاً للحفاظ على التراث والحكايات الشعبية التي تشكل ذاكرة الوطن، وتتيح المجال للمطالعة، فانتقل عدد من “دكاكين” الكتب إلى داخل المقاهي ليمارس أصحابها البيع أو مجرد الإعارة، كما ويحسب للمقاهي إشاعة حرية التعبير فيها، فكانت مكاناً لتوليد “النكات” وتلاقي مختلف الأفكار والآراء، ليصبح للمقهى مكانة كبيرة بشكل عام.
ظل لهذه المقاهي حضورها الفكري والأدبي الفاعل حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، واستمر لنهاية العقد الأول من الألفية الثالثة، لكن الآن اختلف دورها في أغلب الدول العربية، وتحديداً في هذه الظروف العصيبة التي تعانيها منطقتنا، إذ تحولت لمقاه عادية قد يؤمها بعض مثقفي هذا العصر وأدبائه ليستعيدوا من خلالها ذكريات زمن مازالت رائحته تعبق في المكان، فهل سيأتي يوم يعود لهذه المقاهي ألقها الذي افتقدته وتستعيد دورها الفكري والثقافي من جديد.. على الله تعود.