“سيلفي” مع القمر
غالية خوجة
لا يخفي القمر سوى الظلّ، ولا يكشف عن وجوهه إلاّ لشخص بوجه واحد، وهذه محاولة مخفية في السماء، تدركها بعض الأرواح النابضة على الأرض.
ولعلّكم رأيتم، ذات شهر، ذاتَ رؤيا، كيف يبدو القمر شبيهاً لوجه أحد أقاربكم، ومعارفكم، وأصدقائكم، البعيدين، القريبين، الغائبين!.
لنحدّق أكثر بالوجه الواضح للقمر قبل تحديقنا بوجهه الخفي، لعلنا نكتشف كيف يكتب على رياح المسافة بعداً إضافياً لمشاعرنا، فيزدهر التخاطر الروحي بيننا ومَنْ نحب.. حينها، يشعّ القمر أكثر، وكأنه يخبرنا بأن رسالتنا الروحية لمن نذكرهم قد وصلت، وأثّرتْ فيهم أكثر من تواصلنا معهم عبْر الفضاء الإلكتروني، فتنبض قلوبنا معاً، وتتأرجح الذكريات التي جمعتنا بين النجوم، وتتأرجح الذكريات التي ستجمعنا بين العرائش المتدلية من غيوم ستأتي.
السنوات تمرّ، ووجه القمر يمرّ، والفصول تمرّ وهي تعانقنا وتزور معنا الحياة والمقابر، مدركين بأن الجميع عابر، حتى وجه القمر عابر.
وكم عبر الشعراء بمخيلتهم، ووصلوا إلى القمر قبل المراكب الفضائية، وسبقوا يوري غاغارين في التحليق في هذا الفضاء، ورؤية الأرض من السماء، وكانوا أول من نصبوا على القمر والمريخ والمشتري والنجوم خياماً من الأبجدية المتغزلة بحبهم البريء، وكانوا يثقون بالقمر كعلامة إشارية تربطهم بمن يحبون، وتربط بهم من يحبون، وكأنهم عرفوا السيمياء ودلالاتها بوجوهها المتعدّدة الرمزية والتأويلية والمخفية قبل أن يعرفها النقاد، فكانت الوجه الخفيّ للقمر الذي ترتسم على وجهه الواضح ملامح من يحبون ويتذكرون ويصوّرون في أشعارهم، وبذاك يكونون أول من اخترع صورة “السيلفي” مع القمر.
وكم يتمنّى التائهون، المغتربون، المتباعدون، أن يلتقطوا مثل هذه الصورة، ليجمّدوا تلك اللحظة، فتكون غير قابلة للانصهار في الزمن المتتابع مثل الأنهار، فلا تحترق اللقطة، ولا تذوب، ولا يصيبها الغبار، لأنها أصبحت لحظة محنّطة، سيعمل على اكتشافها علماء الآثار، مطبّقين كافة النظريات القديمة والحديثة، غير مصدّقين بأنها صورة في قصيدة محفوظة في نبضة معتّقة بلازورد الأحجار الكريمة.
لكن، أين الزمان؟ هل ضاع مثل الأخلاق؟ أم هام مثل المصاب بما بعد الصدمة؟ أم تناثر مثل أوراق الخريف؟.
يخبرنا القمر بأنه وجه الزمان المخفيّ، لذلك يهلل ويكبر بدراً ويموت طفلاً ويعود طفلاً، تماماً، كما كلّ مخلوق، ووحدها الحروف تظلّ مشعّة بالنوايا المزدهرة، فتولد ولا تشيخ، وتمتزج بعناصر الكون المائية والترابية والنارية والهوائية والمعدنية والخشبية، وتتحلّق حول ذاتها، وكأنها شخوص ترقص المولوية، لتلتحم مع الوجود واللا وجود، وتسبح وتحلّق وتلهو وتكتشف بين المراكب والأنفس والغابات والموسيقا والجبال والمجرات، وتسحب معها ما غاب منا ذرات، وما يتكوّن منا ذرات، وكلما أبصرنا دواخلنا أكثر، جذب القمر ملامحنا، وغزلها مع أشعته، ونشرها في هذا الكون الذي لا تعرف مسافاته كيف تكون نهاياتها، وعلى أية نهايات تنفتح وتتفتّح.
كلّما حدقنا بالقمر، رأيناه يحدّق فينا، ويصغي لتساؤلاتنا: هل ما زال في العمر شعاع لنساعد أنفسنا على رؤية وجهه الخفي، فنتغلّب على عتمته، وندور مع ضوئه، لنملأ العالم محبة وخيراً وعطاء؟