أسواق حلب الداخل مفقود والخارج مولود … وبين البائع والشاري يفتح الرب المعبود
البعث الأسبوعية – معن الغادري
على الرغم من كل التطمينات والاجراءات والقرارات المتخذة على مستوى مجلس المحافظة ووفرة الضبوط التموينية المسجلة والتأكيد على تشديد الرقابة على الأسعار لم يتبدل المشهد التمويني في حلب بل زاد سوءاً وتعقيداً في ضوء ما تعيشه الأسواق من فوضى عارمة وانفلات والتهاب كبيرين في الأسعار وعلى نحو بات من الصعب على الجهات المعنية ضبط ميزان وإيقاع السوق وآلية العرض والطلب والتي يتحكم بها التجار على هواهم لجهة احتكار المواد والسلع أو لناحية فرض الأسعار المزاجية والتي تحقق لهم نسب أرباح خيالية لا تتوافق مع القيمة الحقيقة للسلع وجودتها .
ولعل الأسوأ في هذه المعضلة المستمرة وفق كل استطلاعات الرأي ، يكمن في ضعف الرقابة المنوطة بمديرية حماية المستهلك إلى جانب اتساع ظاهرة التهريب وإغراق الأسواق بمواد وسلع غير معروفة المصدر أو منتهية الصلاحية ، ما ينذر بمخاطر انتشار الأمراض وزيادة حالات التسمم خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة خلال موسم الصيف .
مغارة علي بابا …
واقع حال الأسواق في حلب المنتشرة عشوائياً طولاً وعرضاً ، هي أشبه بمغارة ( علي بابا والأربعين … )فالداخل إليها مفقود والخارج منها مولود ، وللوهلة الأولى تصاب بالدهشة وينتابك شعور بأنك تخوض مغامرة من الصعب تحديد ملامحها ونتائجها نتيجة زيادة حدة الصراع الفكري والحسابي لخلق حالة من التوازن بين الحاجة اليومية وبين الدخل الذي يكاد يكون معدوماً ولا يكفي لسد حاجة الأسرة لأسبوع ، ومن هنا تبدأ رحلة المعاناة والبحث المستميت عن حلول أقل تكلفة، من بينها غض النظر عن مصدر السلعة وجودتها وصلاحيتها، وهي أحد الحلول الدارجة وتتلائم نسبياً مع القدرة الشرائية للمواطن الأقل دخلاً والذي يبحث عن تكلفة أقل في تامين مستلزمات عيشه ولقمته اليومية ، وهو ما يزيد من مخاطر التعرض إلى مشكلات صحية قد يكون ظهور آثارها مؤجلاً ولاحقاً مع مرور الوقت .
شعبية ولكن !
المتعارف عليه أن الأسواق الشعبية بتنوع سلعها وانخفاض أسعارها نسبياً تشكل الحاضنة للدراويش وملاذاً وخلاصاً لذوي الدخل المحدود المكتوين من نار الأسعار ، إلا أن هذه السمة او الصفة تلاشت تدريجياً وبالتالي تحولت هذه الأسواق مع بدء الحرب الإرهابية وبعد تحرير حلب إلى ما يشبه الحوت تبتلع كل ما في جيوب المواطن ، حيث لم يعد صخبها وضجيجها المعتاد محبباً ، نتيجة أسعارها المرتفعة والتي فاقت قدرة المواطنين على الشراء، وخاصة الفواكه الصيفية والتي خرجت من حسابات الأسرة بعد ارتفاع أسعارها لدرجة غير مقبولة .
أبو مصطفى كغيره من الموظفين ، وهو رب لأسرة مكونة من خمسة أشخاص لديه قصة يومية لا تنتهي مع الحاجة المستمرة لتلبية احتياجات أسرته اليومية من المأكل فقط ، ويقول المهمة تبدو صعبة للغاية ومعقدة جداً تبدأ مع كيفية تحقيق التوازن بين الراتب أو الدخل الشهري ومع متطلبات الاسرة اليومية من مأكل ولباس وتعليم وطبابة وغيرها من مستلزمات الحياة اليومية واحتياجات ومصاريف الأولاد، وهو أمر مرهق جداً وكابوس حقيقي يرافقك في كل تحركاتك ويومياتك .
ويضيف أبو مصطفى ، أين دور حماية المستهلك وباقي الجهات في ضبط إيقاع الاسواق وارتفاع الأسعار ، ويتساءل ما جدوى كتابة الضبوط إن لم تشكل رادعاً وتمنع من حالات الغش ، مضيفاً بأن يمضي يومياً أكثر من 3 ساعات على أبواب الأفران للحصول على مخصصاته من الخبز ، بينما تباع ربطة الخبز على بعد أمتار من أي فرن بسعر 4 آلاف ليرة دون أي رادع أخلاقي أو قانوني .
السيد محمود وهو موظف أيضاً ومعيل لأسرة من ثلاثة أشخاص يشير إلى أن القوانين والقرارات تصدر لكى تطبق، ودون ذلك تفقد قيمتها، وتفقد مؤسسات الدولة هيبتها والمواطن الثقة ، ويضيف مظاهر الفوضى التى تملأ الأسواق لا تجد من يتابعها أو يراقبها وما زال المواطن هو ضحية جشع واستغلال التجار ، وعلى سبيل المثال يتابع السيد محمود حديثه أصدرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك العديد من القرارات بإلزام التجار وأصحاب المحال التجارية بكتابة الأسعار على السلع والعبوات، والتأكيد على الجهات المعنية بمتابعة جودة السلع المطروحة بالأسواق، وتشكيل لجان متابعة ومراقبة لضبط حالات الغش والاحتكار والاستغلال ، إلا أن هذه القرارات ظلت مجرد حبر على ورق ، وبالتالي ما زال الحال على ما هو عليه بل أكثر سوءاً مع استمرار التلاعب والتحكم بقوت المواطن من خلال رفع الاسعار بلا أي سبب أو مبرر من قبل التجار الذين لا ضابط لهم ( أخلاقي أو قانوني )
التهريب يفاقم الوضع …
أشرنا غير مرة إلى ظاهرة التهريب وإغراق السوق ببضائع وسلع أجنبية مجهولة المصدر ومنتهية الصلاحية ، وضرورة معالجة هذا الملف وإغلاق منافذ المدينة وتشديد الرقابة على الأسواق ، إلا أن المعنيين والجهات الرقابية تعاملوا مع هذه القضية على أهميتها بإعتبارها تشكل خطراً داهماً على صحة المواطن والإقتصاد الوطني على السواء ( بإذن من طين وأخرى من عجين ) .
والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه القضية المتشعبة، هو كيف لهذه البضائع والسلع أن تدخل المدينة وتعرض في واجهات المحال وعلى الأرصفة وعلى عينك يا تاجر بغفلة عن الجمارك وحماية المستهلك، وما هو مصير القرارات الصادرة عن الوزارة المختصة وعن مجلس المحافظة بهذا الشأن، وهل السبب في غياب التنسيق ، أم في ضعف إمكانات الجهات الرقابية في تطبيق الأنظمة والقوانين، ما يعتقده المراقبون والمهتمون والمواطنون أن المسألة تتعدى بكثير هذه الأسباب والممبررات ، ووفق الاستطلاع الذي أجرته – البعث – مع عدد من شرائح المجتع ، أجمعت الآراء على أن هذا الملف على وجه التحديد من الصعب معالجته لأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحالات فساد اتسعت دوائرها خلال سنوات الأزمة لتشكل مافيات ومجموعات امتهنت وبحرفية عالية كيفية التعاطي مع الازمات وتوظيفها لصالح منافعهم الضيقة ، وإلا ما تفسير وما تداول المواد والبضائع المهربة وعلى عينك تاجر ودون حسبب أو رقيب
المطلوب إجراءات صارمة …
ذات الآراء أكدت على ضرورة الحزم والتشدد في تطبيق القوانين لوقف استنزاف اقتصادنا الوطني ، ولفت عدد من المواطنين أن ( دود الخل منه وفيه ) وهو ما يستدعي وعلى وجه السرعة في وضع ضوابط ونواظم جديدة تعيد لمفصلي الجمارك وحماية المستهلك هيبتهما ودورهما الحقيقي في مكافحة التهريب وحالات الغش والتدليس ووضع حد للتلاعب بقوت المواطن، وعلى نفس المسار لا بد من العمل وبجدية عالية لمحاربة الفساد وكشف الغطاء عن الذين يتسترون وراء شعارات فضفاضة ورنانة لتحقيق مأرب ومنافع خاصة وضيقة على حساب المواطن وأمننا الإقتصادي والغذائي .
عمل يومي …
لا شك أن المطلوب لضبط حركة وإيقاع السوق لا يتوافق مطلقاً مع الإمكانات المتاحة لمديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك ، لناحية وجود الكادر البشري التخصصي والكافي لرصد حركة السوق ، إلى جانب توفير احتياجات العمل من آليات ومخابر وغيرها ، والتي تخدم العملية التموينية .
وفي ضوء هذه المعاناة والدوامة ، يصعب على العاملين في حماية المستهلك تغيير المشهد التمويني نحو الأفضل وإيجاد طرق وأساليب جديدة للتعاطي الناجع مع مفرزات الأزمة السلبية ، من خلال تنظيم العمل ووضع رؤية شاملة تمكن العاملين في هذا القطاع من القيام بالمهام المنوطة بهم على أكمل وجه .
ويوضح مدير التجارة الداخلية حماية المستهلك المهندس أحمد سنكري أن العمل لا يحتكم إلى خطة أو ما شابه فهو عمل يومي يتواتر مع متحركات ومتغيرات السوق والحالات الطارئة ، وعلى صلة مباشرة بمتطلبات الحياة اليومية كصناعة الرغيف وجودته وبيع اللحوم والفروج ومختلف المواد الغذائية ومراقبتها فيما اذا كانت مطابقة للمواصفات أم مخالفة ، ومتعلقة أيضاً بقضايا التهريب والغش والتلاعب بالأسعار والمواصفات والجودة والمواد مجهولة المصدر ومنتهية الصلاحية ، كل ذلك يقع على كاهل دوريات حماية المستهلك والتي تقوم بدورها ضمن ما تملكه من إمكانات في ضبط المخالفات واتخاذ الاجراءات القانونية وإحالة مرتكبي هذه المخالفات أصولاً إلى القضاء وفق ما نص عليه المرسوم 8 .
ويضيف المهندس سنكري إن ضبط السوق لا يقع على عاتق حماية المستهلك وحسب بل هناك شركاء في هذا الملف ، المطلوب منهم المساهمة كمديرية الجمارك وغرفة التجارة المعنيين في قضية ضبط مداخل ومنافذ المدينة ومنع التهريب ودخول المواد والبضائع مجهولة الهوية ومنتهية الصلاحية ، ونحن كمديرية وعلى الرغم من الإمكانات المتواضعة نقوم بعملنا اليومي داخل المدينة وذلك برصد كل أشكال المخالفات والإستجابة السريعة لشكاوي المواطنين ، حيث يتم يومياً تنظيم عشرات الضبوط التموينية بمختلف أنواعها وإحالة مرتكبيها إلى القضاء المختص واغلاق المحال والمنشآت المخالفة .
ويضيف سنكري لقد تم خلال الربع الثاني من هذا العام تنظيم 1900 ضبطاً عدلياً بحق مختلف الفعاليات التجاريه وتنوعت الضبوط بين تقاضي أجر زائد لاصحاب المولدات والبيع بسعر زائد والاعلان بسعر زائد للمواد الغذائية وعدم ابراز فواتير وعدم وضع بطاقة بيان على المواد والسلع المعروضه للبيع ، كما تم سحب ٣٣٢ عينه من الاسواق متنوعه من المواد الغذائية للتأكد من مطابقتها للمواصفات، كما قامت شعبة المقاييس في المديريه بتنظيم ٤١ ضبطاً عدلياً بحق محطات الوقود وصهاريج توزيع المازوت المنزلي وتنوعت الضبوط بين النقص بالكيل والبيع بسعر زائد والتصرف بالمحروقات وبلغت مجموع الغرامات لهذه الضبوط حوالي 337513900 ليرة .
وبما يخص الشكاوى الواردة للمديرية من المواطنين فقد تم معالجتها بالسرعة المطلوبة .
وختم مدير مديرية التجارة الداخلية وحماية المستهلك حديثه بالقول : يمكنني التأكيد أنه بالإمكان النهوض بالواقع التمويني وبما ينعكس إيجاباً على المواطن فيما لو قامت كل جهة بمهامها المنوطة بها والأهم أن تكون هناك إجراءات صارمة وحازمة لضبط مداخل المدينة ومنع دخول المواد المهربة والممنوعة والتي تتسبب بحدوث خلل كبير في ميزان السوق التجاري ويعود بالضرر على الإقتصاد الوطني والمنتج المحلي .
خلاصة القول …
ما تقدم نجد أن المشكلة التموينية تتصدر المشهد العام لمدينة حلب وتتفاقم على نحو يزيد من أعباء وهموم المواطنين الذين يجدون أنفسهم بين مطرقة الأسعار الملتهبة وسندان القرارات الرخوة والتي أنتجت واقعاً غير مستقر يشوبه الكثير من الشكوك حول دور المؤسسات المعنية المغيب في ضوء اتساع دائرة المتحكمين بالسوق وبقوت المواطن وهو ما نضعه برسم وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك والمعنيين في حلب لمعالجة هذا الخلل الكبير في آليات العمل ، والذي أدى بالنتيجة إلى هذه الفوضى العارمة التي تشهدها الأسواق ، والتي أكثر ما يستفيد منها هم التجار الجشعين ومن يغطيهم من الفاسدين .