دول أوروبية تعيد تشغيل محطات الطاقة العاملة بالفحم.. بسبب نقص إمدادات الغاز
تقارير
“إما العودة إلى الفحم وإما الموت برداً”، أظهر قرار عدد من الدول الأوروبية تشغيل محطات الطاقة العامة بالفحم، حجم الأزمة التي تواجه القارة جراء نقص الغاز الروسي التي تهدد بتعرض سكانها لكارثة في الشتاء، كما فجَّر خلافات داخلية، وسط تساؤلات حول جدوى قرار العودة للفحم، وهل ينقذ القارة من البرد أم أنه سيؤدي إلى تفاقم أزمة التلوث والتغير المناخي دون فائدة.
ولقرون اعتمدت أوروبا على الفحم كمصدر للطاقة، وخيمت أبخرته السوداء على سماوات العواصم الأوروبية، متسببة بموت الملايين، ولكن هذه المادة السوداء هي أيضاً التي حولت القارة لأكثر مناطق العالم تقدماً وزوَّدتها بالطاقة اللازمة لصنع المدافع والسفن التي احتلت بها بلدان العالم الأخرى لتنهب مواردها.
الاستغناء عن الفحم بحلول 2030
خلال العقود الماضية، قررت أوروبا تخفيض اعتمادها على الفحم، لأنه أكثر أنواع الوقود إضراراً بالبيئة، وتسعى للتخلي عنه بالكامل عام 2030، لأنه الوقود الأحفوري الأكثر كثافة من حيث الانبعاثات الكربونية، وبالتالي فهو الهدف الأكثر أهمية للاستبدال من بين مصادر الوقود التقليدية.
ولكن يبدو أن هذا الهدف قد لا يتحقق بعد أن اضطرت العديد من الدول الأوروبية إلى تشغيل محطات فحم أُخرجت من الخدمة؛ بعد أن باتت القارة مهددة بالتجمد في الشتاء مع بدء موسكو تقليص إمداداتها من الغاز في وقت تستعد فيه الدول الأوروبية لملء مخزونات الشتاء، فيما لا توفر الإمدادات المحتملة من الولايات المتحدة والدول العربية والإفريقية البديل الكافي.
فقد دفع انخفاض تدفقات الغاز الروسي وشبح الانقطاع الكامل للإمدادات بعض الحكومات الأوروبية إلى إعادة النظر في الفحم، رغم وصفه بأنه أحد أكثر طرق إنتاج الطاقة قذارة والأكثر تلويثاً على الإطلاق.
إذ قالت ألمانيا والنمسا وهولندا وإيطاليا إنها ستخفف القيود على محطات الطاقة التي تعمل بالفحم بعد أن قالت شركة الطاقة الروسية العملاقة “غازبروم” إنها ستخفض كمية الغاز التي تزودها عبر خط أنابيب نورد ستريم 1 الذي يمر إلى ألمانيا ومنها للعديد من دول القارة.
وتأمل الدول الأربع أن تساعد محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في تخفيف حدة ارتفاع أسعار الغاز، في وقت يكافح صانعو السياسة لكبح التضخم.
وقالت إيطاليا، إنها قد تعلن حالة تأهب مشددة بشأن الغاز هذا الأسبوع إذا واصلت روسيا كبح الإمدادات، مما يعني خفض الاستهلاك، وضمن ذلك تقنين الغاز لمستخدمين صناعيين محددين، وزيادة الإنتاج في محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالفحم.
واتفقت حكومة النمسا مع مرفق فيرياند، يوم الأحد، على تحويل محطة طاقة تعمل بالغاز إلى الفحم في حالة مواجهة البلاد حالة طوارئ تتعلق بالطاقة.
وسترفع هولندا سقف الإنتاج في محطات الطاقة التي تعمل بالفحم؛ للحفاظ على الغاز، وستقوم الحكومة بتفعيل مرحلة “الإنذار المبكر” لخطة من ثلاثة أجزاء لمواجهة أزمة الطاقة.
قرار “مرير”
“قطع إمدادات الغاز عن أوروبا كان “هجوماً علينا” من جانب موسكو”، حسبما وصف وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، يوم الثلاثاء.
وأضاف الوزير الذي هو عضو بحزب الخضر الذي دفع باتجاه التخلي بمعدل أسرع عن الفحم: “هذا مؤلم، لكن من الضرورة القصوى اتخاذه في هذا الوضع بهدف تقليل استهلاك الغاز”، ووصف قرار حكومته بالحد من استخدام الغاز الطبيعي وحرق مزيد من الفحم بأنه “مرير”، لكنه قال إن البلاد يجب أن تفعل كل ما في وسعها لتخزين أكبر قدر ممكن من الغاز قبل الشتاء.
وقالت وزارة الاقتصاد الألمانية إن إعادة محطات الطاقة التي تعمل بالفحم يمكن أن تضيف ما يصل إلى 10 غيغاوات من الطاقة في حالة وصول إمدادات الغاز إلى مستويات حرجة. وسيُعرض القانون المتعلق بهذه الخطة على البرلمان الألماني في 8 تموز القادم.
فخ البرد القارس
وخفضت شركة غازبروم الروسية العملاقة للطاقة المدعومة من الدولة السعة عبر خط أنابيب نورد ستريم 1 الذي يمتد إلى ألمانيا تحت بحر البلطيق، وقالت إن أوروبا يجب ألا تلوم إلا نفسها حيث بررت القرار بتأخر إعادة معدات كان يتم صيانتها من قِبل شركة سيمنز للطاقة الألمانية في كندا.
وقال ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين: “لدينا غاز وهو جاهز للتسليم، لكن الأوروبيين يجب أن يعيدوا المعدات التي ينبغي إصلاحها بموجب التزاماتهم”، بينما اعتبر مسؤولون ألمان وإيطاليون أن روسيا تستخدم هذا ذريعة لخفض الإمدادات.
وليس من الواضح متى- أو ما إذا كانت- ستعود تدفقات غاز نورد ستريم 1 إلى مستوياتها الطبيعية.
تم تداول عقد الغاز الهولندي، وهو المعيار الأوروبي، بنحو 124 يورو (130 دولاراً) لكل ميغاواط في الساعة يوم الإثنين الماضي، بانخفاض عن ذروة هذا العام البالغة 335 يورو، لكنه لا يزال مرتفعاً بأكثر من 300% عن مستواه قبل عام.
وقال ماركوس كريببر، الرئيس التنفيذي لشركة RWE، أكبر منتج للطاقة في ألمانيا، إن أسعار الطاقة قد تستغرق من ثلاث إلى خمس سنوات لتتراجع إلى مستويات منخفضة.
ولا تزال تدفقات الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر خط أنابيب نورد ستريم 1- الطريق الرئيسي لإمداد أكبر اقتصاد في أوروبا- تعمل بنحو 40% من طاقتها يوم الإثنين، على الرغم من أنها ارتفعت منذ بداية الأسبوع الماضي.
وقالت أوكرانيا إن خطوط الأنابيب الخاصة بها يمكن أن تساعد في سد أي فجوة في الإمداد تحدث في خط نورد ستريم 1 الذي قالت روسيا إنه يواجه مشكلة فنية. ولكن موسكو قالت في وقت سابق، إنها لا تستطيع ضخ المزيد عبر خطوط الأنابيب المارة من خلال أوكرانيا.
ولعقود سعت أوروبا للتخلص من الفحم، واقتربت من تحقيق هدفها، بالتخلي عنه نهائياً، في عام 2030، حيث بلغ إنتاج الاتحاد الأوروبي من الفحم الصلب 57 مليون طن في عام 2021، أي أقل بنسبة 79% من إنتاجه في عام 1990 البالغ 277 مليون طن.
ولكن إعطاء الأولوية للدوافع البيئية على الاعتبارات الاستراتيجية والأمنية كان كارثياً على القارة، فلقد استغنت عن الفحم عبر الاعتماد على الغاز الروسي.
“فلقد أدت عقود من سياسات الطاقة والبنية التحتية الفاشلة إلى نقطة دفعت فيها حكومات دول الاتحاد الأوروبي إلى النظر في العودة إلى الفحم، وهو الوقود المسؤول عن ملايين الوفيات”، حسبما قالت ماهي سيديريدو، المديرة الإدارية في مؤسسة “أوروبا ما بعد الفحم” المعنية بالتخلص من الفحم كوسيلة لتوليد الطاقة.
ولدى ألمانيا كميات لابأس بها من “الليغنيت”، وهو أقذر أشكال الفحم، لكن ربما سيحاول المسؤولون تعظيم إنتاجه؛ لتجنب نقص الغاز في فصل الشتاء، حسبما قال هينينج جلويستين، مدير الطاقة والمناخ والموارد في مجموعة أوراسيا لاستشارات المخاطر السياسية، لقناة CNBC الأمريكية يوم الثلاثاء.
وقال جلويستين إن صانعي السياسة الأوروبيين يجب أن يكونوا قادرين على تجنب تقنين الطاقة الشتوية. ومع ذلك، حذَّر من أن “الأمور يمكن أن تصبح سيئة حقاً” إذا توقف الغاز الروسي عن التدفق عندما يكون الجو شديد البرودة.
السيناريو الأسوأ هو تقنين الطاقة. يعني ذلك أن يُطلب من الصناعات غير الأساسية في المرحلة الأولى تقليل الاستهلاك. هذه خطة نشرتها الحكومة في ألمانيا خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وتابع: “ستكون الخطوة التالية تقنين استهلاك الصناعات والأسر بشكل كبير، وهذا شيء في أوروبا لم يختبره معظم الناس من قبل”.
و”هذا في الشتاء يعني أن الناس سيصابون بالبرد، وفي بعض المناطق، إذا كان الشتاء بارداً، فسيموت بعض الناس وهذا أمر كارثي من الناحية السياسية”، حسب جلويستين.
هل يعني ذلك تخلى أوروبا نهائياً عن خطتها بالتخلي عن الفحم؟
العودة الأوروبية للفحم تقوِّض بشكل خطير، طموح الاتحاد الأوروبي الجريء إلى أن يصبح محايداً مناخياً بحلول عام 2050.
وأثيرت مخاوف، من قِبل المفوضية الأوروبية ومنظمات غير حكومية، من أن أزمة الطاقة قد تؤدي إلى تأخير انتقال أوروبا بعيداً عن الوقود الأحفوري، حيث قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، يوم الثلاثاء: “علينا التأكد من أننا نستخدم هذه الأزمة للمضي قدماً وعدم التراجع عن الوقود الأحفوري القذر”.
وهذا الهدف هو أحد أحجار الزاوية لسياسات فون دير لاين، التي حذرت من وجود خط رفيع بين استخدام الفحم بشكل مؤقت وبين العودة له بشكل دائم، وإذا لم يتحدد هذا الخط بطريقة صارمة، فإن أوروبا تسير في الاتجاه الخاطئ”.
بينما قالت ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا وأكبر مستهلك للطاقة بالاتحاد الأوروبي، إنها لا تزال تخطط للخروج من الفحم في عام 2030، إلا أن الجماعات البيئية تشكك في ذلك.
وقالت لوري ميليفيرتا، كبيرة المحللين في مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف، إن من المهم فهم الجداول الزمنية لقرار أوروبا التحول إلى الفحم.
“وإلى جانب العودة للفحم، استجاب الاتحاد الأوروبي والعديد من دوله للأزمة من خلال تسريع نشر الطاقة النظيفة، مما يعني أن أوروبا ستخفض استهلاك الوقود الأحفوري بشكل أسرع خلال السنوات المقبلة، مما كان متوقعاً قبل الأزمة”، حسب ميليفيرتا.
وقال الاتحاد الأوروبي إنه يريد تسريع خطط زيادة التوليد من مصادر الطاقة المتجددة، مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية، مع إيجاد طرق لتنويع إمدادات الغاز في أعقاب الحرب الروسية في أوكرانيا.
ويبقى هناك مجال أمام الاتحاد الأوروبي لبذل مزيد من الجهد لتقليل الطلب على الوقود الأحفوري على المدى القصير، لا سيما في المباني ووسائل النقل، وفقاً لميليفيرتا، التي ترى جانباً إيجابياً في الأزمة وهو أنها “سرَّعت الانتقال للطاقة النظيفة بشكل كبير”.
“ولكن الشيء المهم الآن هو أن يضمن الاتحاد الاوربي أن أي تدابير جديدة ما هي إلا مؤقتة، وأن أوروبا تسير على الطريق الصحيح للتخلي الكامل عن الفحم بحلول عام 2030 على أبعد تقدير”، حسب ماهي سيديريدو.
وقالت سيديريدو إن هناك حاجة إلى استثمارات كبيرة في الطاقة المتجددة- خاصةً طاقة الرياح والطاقة الشمسية- وحلول تخزين الطاقة وإجراءات الكفاءة والمزيد. وأضافت: “هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها معالجة تكاليف المعيشة وأزمات المناخ، والمساعدة في تحقيق السلام”.