الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أنموذجان

عبد الكريم النّاعم

فوجئتُ بزيارة صديق قديم جمعني به أكثر من حقل من حقول الشعر والثقافة، والتطلّعات، ولم أره منذ سنوات، فهو يسكن في مدينة أخرى، وحال بين تواصلنا ما أصاب مجتمعنا السوري منذ أن انتشرتْ رائحة شواء الأجساد الحيّة في ربوعنا حتى زكمت الأنوف، وجلسنا نستعيد بعض ذكرياتنا التي أصبحت جرساً في وادٍ من النسيان، إلاّ من اقتحام حادثة على غير تذكّر، أو ورودٍ غير مقصود، وكانت قد جمعتْنا مهرجانات لا تُنسى، أيام كانت المهرجانات الشعريّة تمتدّ على مساحة هذا البلد، من الحسكة وحتى درعا، ومن اللاذقيّة حتى السويداء، بما بين هذه الخطوط من مدن وحواضر، وكانت القاعات في المراكز الثقافيّة تحتشد بالآتين لسماع الشعر، لا كما يجري اليوم، فنحن في زمن لو عاد فيه مظفّر النوّاب إلى الحياة، ودُعي إلى أحد المراكز لَما وجد إلاّ عدداً ضئيلاً، يُضاف إليه إجبار مدير المركز المُداومين من موظفيه على الحضور تقليلاً لمدى فداحة إعراض الجمهور عن الحضور، فأزمنتنا الحاليّة، كما تعلم، ليست أزمنة الانشداد إلى الكلمة، ورفرفة الإبداع، بل أزمنة نكوص، وألم، وبحث عن اللقمة، وعمّا يسدّ بعض الحاجات، وما أكثرها، وما أندر الحصول عليها إلاّ لمن ركب موجة الاستئثار، وتمكّن، بطرق، معظمها، إن لم يكن كلّها، ليس ابن الطّرق المشروعة، فأثرى وفَرْعَنْ.

كان الزمن السياسي والفكري يومها يتسيّده القوميون التقدميون الوحدويّون، والماركسيّون، وكانت الثقافة الظلاميّة قابعة في جحورها، تنتظر كعادتها فرصة لكي تخرج الخفافيش من أوكارها، وكم عرفنا لها من كرّة!!.

جلسنا نستعيد بما يُشبه الهمس بعض ملامح تلك الأزمنة، بشيء من الحسرة، ولات ساعة تنهّد حارق، فقد كنّا ندرك في أعماقنا أنّ أزمنة صلاحيتنا الآن قد انتهتْ، لا بسبب الشيخوخة فينا فحسب، بل لأنّ ثمّة أزمنة ذات ملامح هي نتاج ذلك الخراب الذي ضرب البلد خلال عشر سنوات مريرة، صحيح أنّها توقّفت الحرائق فيها، ولكنّ آثارها التدميريّة قد تمتد أعماراً بكاملها، لأنّها زعزعت الكثير من أساسات البناء.

قلت له: “لقد كانت تجمعك صداقة حميمة مع صديقنا الشاعر الراحل (….)”.

قال: “هذا صحيح، رغم أنّنا لم نكن متفقيْن على كلّ شيء، فهو رحمه الله ينزع نزوعاً ماديّاً بعض الشيء، وأنا، كما تعلم، منذ بواكير حياتي كانت لديّ نزوعات صوفيّة، أعني الصوفيّة البصيرة، لا صوفية الدّرْوشة والرّثاثة، والصوفيّة التي تخصّني وحدي، والتي ربّما رأيت فيها طريقاً لِما يمكن أن يوصِل لمرافئ الأمان الداخليّ، في أزمنة ماديّة صارخة، صادرتْ كلّ أحلامنا وأعمارنا”.

قلت له: “لقد كان رحمه الله هادئاً في حياته هدوء شعره، ولستُ أبالغ إنْ قلت إنّه من أهمّ الشعراء العرب، على الرغم من أنّ بعض شعراء هذا القطر قد تمكنّوا من أن يحلّقوا عالياً على مستوى وطننا الكبير”.

قال: “هذا صحيح، فقد تمكّن البعض من تسويق نفسه تسويقاً مدروساً، فأفلح، ولم يكن صديقنا من ذلك النّوع، كان يكره الصدام، وأذكر أنّ أحد الشعراء من أصدقائنا قد استفزّه ذات يوم بطريقة أقرب إلى الوقاحة، فكان أنّ نظر إليه بصمت، وأخذ حقيبة يده وغادر، وحين سألتُه عن سبب صمته، قال بهدوئه المعروف: “أتريد أن نشتبك بالأيدي، فنبدو كزعران الشوارع، إنْ كان هو لا يهمّه ذلك فإنه في غاية الأهميّة بالنسبة لي”.

قلت: “لقد كان في موقع ثقافي يُغبَط ويُحسد عليه، وقد نجح في كلّ الأماكن الثقافيّة التي عُهد بها إليه”.

قال: “ولعلّ هذا ما أثار آخرين ضدّه…”.

aaalnaem@gmail.com