ما مستلزمات الراحة النفسية والاقتصادية للعمال؟
علي عبود
ربما هي المرة الأولى التي يتحدث فيها وزير عن تأمين الراحة للعمال في أيام صعبة تعجز فيها ملايين الأسر العاملة بأجر عن تأمين احتياجاتها الأساسية من الغذاء.
خلال جولته على بعض شركات القطاع العام، استخدم وزير الصناعة تعبيراً غير مسبوق وهو “تحسين الراحة النفسية والاقتصادية للعامل”!.. منطقياً وعلمياً واقتصادياً، العملية الإنتاجية لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا بتأمين الراحة للعمال في أماكن العمل، ومن المؤسف أن هذه “الراحة” غير متوفرة في شركات القطاع العام، كما أن توفرها نادر جداً في القطاع الخاص، حيث الاستثناءات قليلة جداً، وربما انعدمت كلياً في السنوات الأخيرة، والراحة التي تحدث عنها وزير الصناعة ليست معنوية، وإنما حددها بـ “الراحة النفسية والاقتصادية للعامل”. ولم يكتف الوزير بالوصف الدقيق للراحة المطلوب توفرها للعمال، بل حدد آليات تأمينها من خلال تأكيده “أن تحسين وضع العمال في جميع القطاعات يكون من خلال متممات الراتب كالحوافز الإنتاجية والوجبات الغذائية..”، وهنا نختلف مع وزير الصناعة جذرياً، فتأمين الراحة النفسية والاقتصادية لا يكون من “حساب” العامل، أي من الأجر الذي يستحقه، وإنما من حساب الشركة أو المؤسسة أو المعمل. اقتصادياً، ودستورياً أيضاً، يجب أن يتقاضى العامل أجراً يكفي تأمين الحد الأدنى للمعيشة، وعندما لا يتقاضى العامل هذا الحد سيبقى باله مشغولاً طالما هو في حالة “اليقظة” بأسرته، وكيف؟ ومن أين سيؤمن مستلزمات العيش الكريم؟ وبالتالي فالحديث عن تأمين الراحة النفسية والاقتصادية للعامل مجرد حديث نظري لا يمت للواقع بأية صلة طالما الراتب مع متمماته لن يشتري أكثر من 10% من حاجات الأسرة الأساسية، ولكن، لندع حديث وزير الصناعة جانباً، ولنستحضر مثالاً واقعياً انتزع إعجاب التنظيم العمالي واعتبره أنموذجاً يجب أن يُحتذى في شركات القطاع العام الصناعي!.
في تسعينيات القرن الماضي، أقيم مشروع استثماري أجنبي بمشاركة مستثمرين سوريين، وكان من حظ العاملين بالمشروع أن الشركة “الأم” أشرفت عليه من الصفر حتى بدء الإنتاج. كان هذا المشروع مثالياً من حيث تأمين الراحة النفسية والاقتصادية للعمال، فإدارته أمّنت لهم مطعماً نظيفاً وحضارياً يتناولون فيه وجبة غذائية دسمة، وعيادة طبية مجانية، ووسائط نقل بباصات جديدة من المنزل إلى الشركة، وبالعكس، ومكانا لممارسة الرياضة.. إلخ. كل ما سلف يدخل، حسب تعبير وزير الصناعة، في باب “متممات الراتب”، أما الأجر الفعلي الذي يحقق الراحة النفسية والاقتصادية فكان يزيد عن الحد الأدنى للأجر لقاء 6 ساعات عمل، يضاف إليه أجر عن إنجاز كل وحدة عمل خارج ساعات الدوام!.
أكثر من ذلك، عملت الشركة على تأسيس “صندوق مالي” يقدم مساعدة أو قرضاً بلا فوائد لمن يتزوج كي يتمكن من أن يستأجر منزلاً قريباً من الشركة، مع مزايا أخرى كثيرة. كل هذه المزايا والمكاسب الاقتصادية التي انعكست راحة نفسية للعمال لم تؤد إلى خسارة الشركة، بل كانت أرباحها كبيرة، وتُصدّر الجزء الأكبر من الإنتاج للأسواق الخارجية! الملفت أن التنظيم العمالي كان يُنظّم زيارات للوفود العربية والأجنبية إلى هذه الشركة للاطلاع على مشروع استثماري أنموذجي في سورية!.. حسناً، إذا كان وزير الصناعة مهتماً بالراحة النفسية والاقتصادية للعامل، وبما أنه ليس صاحب القرار بزيادة الأجور، فإن السؤال: لماذا لا يوجّه الوزير مديري الشركات بإقامة مطاعم تؤمن وجبة غذائية مقبولة، وليست دسمة للعمال، وتوفير وسائط نقل مجانية لهم، وعيادة طبية تؤمن لهم الحد الأدنى من العلاج والدواء.. إلخ؟
الخلاصة: كانت الشركات الإنشائية في “الزمن الغابر” أنموذجاً بتأمين الراحة النفسية والاقتصادية لعمالها، واستطاعت استقطاب أفضل الكفاءات والخبرات السورية، وكان العامل فيها يلبي نداء إدارته في عز الليل لأنه كان أكثر من مكتف مادياً، ولكن تم وأد هذه التجربة الأنموذجية بإخضاع الشركات الإنشائية لقانون العاملين الموحد في نهاية ثمانينيات القرن الماضي؟!.