مجلة البعث الأسبوعية

تشكيل الفنان طه شنن في حديقة السبيل

البعث الأسبوعية-غالية خوجة

كلما كثرت الأعمال الفنية في الأماكن العامة للمدينة فاعلم أن المدنية والحضارة محور أساسي في حياة ساكنيها، وهذا ما تعكسه مرايا المدن والأرياف السورية في مداخلها وحدائقها وجامعاتها ومدارسها وساحاتها وأماكنها العامة، وكأن كل شيء فيها يشبه حالة بجماليون الذي طلب من منحوتته الفنية أن تنطق بلغة البشر أيضاً لا بلغة الفن فقط.

وحلب تتمتع بهذا البُعد الفني التشكيلي النحتي المتنوع، وما زال أهلها يعبّرون عن أنفسهم باللون والخط والخامات النحتية المختلفة من معدن وحجر وخشب، ومنذ فترة أنهى طلاب كلية الفنون الجميلة لوحة كليتهم الجدارية الجماعية، بينما تقف مجسمات الشعراء والكتاب والعلماء بشخصياتها الثقافية التراثية والمعاصرة متأملة في كل مكان، وها هو أبو فراس الحمداني يستقبلنا في الحديقة العامة التي تجمع البحتري وخليل هنداوي، بينما يصافحنا عمر أبو ريشة عند دوار باسمه، ويقف سعد الله الجابري في الساحة المسماة باسمه محدقاً في نصب الشهداء، بينما تلمع عينا قسطاكي حمصي على دوار آخر أكثر هدوءً، كما ينبض قلب جبرائيل جرمانوس فرحات بكلمات المحبة الفسيفسائية في الساحة المسماة باسمه، فتأخذنا المحبة إلى تشكيلات نحتية أخرى متماوجة في حديقة السبيل بحلب المعتبرة ثاني أكبر حديقة بعد الحديقة العامة، ومنها منحوتة سبيل السبع القائمة حتى الآن، تفتح فمها لتمنح الماء لطالبيه العطاشى لوجه الله تعالى، وهذه المنحوتة للفنان الحلبي طه محمد شنن (1913-1980)، الذي اعتاد على النحت بأدوات بسيطة كالإزميل مثلاً، معتمداً على الحجر الحلبي الخام والشمعي والأصفر الطري، والذي تقوده الفطرة إلى الإبداع الأصيل.

اعتاد أهالي حلب على حضور السبيل في حياتهم اليومية، وكيفما تحركت وجدت سبيلاً لسقاية الماء، وآخر لسقاية المخلوقات الحية، ومنها سبيل خان الوزير، سبيل أحمد بيك، وسبيل الدراويش الذي شيدت في باحة سقايته القديمة حديقة السبيل ذات التصميم الهندسي البنائي الجميل، وأشجارها المعمرة، ونباتاتها المتجذرة، وقسم حيواناتها الخاصة لا سيما القرد سعيد والقردة سعيدة، والجميع له ذكريات معهما ومع الحيوانات الأخرى مثل البط، والطواويس، والأرانب.

تجذبنا حديقة السبيل مع فصولها وهوائها الشافي وذكرياتها التي تعود إلى عام 1895 كبداية لتعميرها، وإطلالتها على حي السبيل وشارع تشرين من خلال 3 أبواب مفتوحة للراحة النفسية والاستجمام وممارسة الرياضة واللعب بالألعاب المجانية التي يعشقها الصغار والكبار، إضافة إلى النافورة الموسيقية التي سبقتها في الحضور نافورة الحديقة العامة المتراقصة المياه مع الإضاءات الملونة.

ولا بد للزائر أن ينتبه لدولاب استخراج الماء بقوة الهواء، والذي يذكّرنا بمغامرات دونكيخوته، فيظهر لي طيفه مع حصانه الهزيل وأفكاره المضيئة، ويخبرني بأنني دونكيخوته المعاصر، فأصدقه، وأجلس على مقعد إحدى الأراجيح لأحارب الهواء والرياء، وأتأمل الأرض والسماء، وأترك ظلي للأرجوحة، وأذهب لأصعد درجات المظلة الموسيقية وأقف في وسطها، وأسأل دونكيخوته: أين أنت؟ ولماذا اختفيت؟ فيتردد صدى صوتي بين أرض المظلة وسقفها الحجري، ثم يردّ عليّ: اختفيت ليظهر خيال فنانكم شنن، فأنظر بدقة، وألمح النحات شنن بلباسه الفلكلوري وإزميله واقفاً قربي يسألني: هل تعلمين أن لهذه القبة هندسة كتلية وفراغية خاصة لتوزع الأنغام والأصوات والأصداء والترددات؟

فأجيبه: واضح، أيها المبدع، ولولا ذلك لما وصلني صوتك، ولا طرقات إزميلك الجميلة النابضة حتى الآن.

كأنه أشار إلى أعمدة حجرية متوزعة في حديقة السبيل، وأضاف: هذه القواعد والأصص والمزهريات من عملي الفني، والورود والأعشاب المتدلية منها لا تنساني مثلكم أيها البشر.

أجبته: كيف ننساك، وها أنا أكتب عن أعمالك النحتية الموزعة في كل مكان، حتى على واجهات المباني والعمارات الحلبية، وفي دار الكتب الوطنية، و..فجأة، اختفى الظل، وظلَّ صوتي يتردد بين القبة الموسيقية ومنحوتة السبع ودولاب الهواء، بينما ظلّت نبرة صوته المعاتبة واقفة تحت المظلة تردد: لا تنساني مثلكم أيها البشر، لا..تَنْ..سَا..نِي..مثلكم..أيُّ..هَا..الْ..بَ..شَ..ر.