قافلة المصالحات التي تسير قدماً
بسام هاشم
منذ مرحلة مبكرة، شكلت المصالحات الوطنية واحدة من الآليات الميدانية والمباشرة لاحتواء تداعيات الحرب، بكل آثارها الكارثية، فكانت نوعاً من استجابة تنهض على الوعي المبكر بطبيعة الحرب ذاتها، وطبيعة استهدافاتها المتوحشة والتدميرية، وطبيعة أدواتها التي طالما جرى الرهان عليها لإذكاء وتجديد العنف المنفلت والأعمى، كلما اقتضت الحاجة، انطلاقاً من حقيقة أن الهدف الأخير هو تدمير الدولة والمجتمع، وتقسيم سورية إلى كانتونات وإقطاعات تخدم مصالح الأطراف والأنظمة المتورطة أساساً في مشروع الحرب، والتي أمدت هذا المشروع بالمال ودعمته بالسلاح، وغطته في الميديا الغربية، على امتداد سنوات طويلة، وحتى الآن.
نظرياً، تستند فكرة المصالحات إلى حقيقة أن الحرب كانت مشروعاً معداً وجاهزاً في الأدراج، وجرى تصميمه والتخطيط له مسبقاً، وأن إشارة البدء تمثلت بالعمل على إغراق المجتمع السوري بموجات متتالية من البروباغاندا القذرة، القائمة على التضليل والكذب.. كان الهدف شق بنية مجتمعنا السوري، أفقياً وعمودياً، وفق مسارات طائفية ومذهبية ومناطقية وعشائرية، بحيث تتحول المدن والبلدات والقرى، المتجاورة منها على الأخص، إلى كيانات متناحرة وكتل من لهب يلتهم بعضه البعض، على أن يستمد مقومات استمراره من التغول في العنف وتجذير الأحقاد والاستحضار الدائم لغرائز الانتقام الطافية على السطح تباعاً؛ وأيضاً من قابليات “التحارق” المتبادل، الذي يقتات دائماً، وبشراسة، على التنحي الظرفي والمؤقت للوعي الوطني، والصورة الذهنية العابرة التي ينكب على شحنها إعلام خليجي وغربي لطالما أوغل في سفك الدم السوري، فكان أن جرت محاولة تلقيم العالم، والسوريين بالدرجة الأولى، بعشرات آلاف الأخبار والقصص والروايات والصور والفيديوهات الفبركة والمزيفة، على أمل نشر الصدمة والرعب، وإقامة الحواجز والمتاريس في كل مدينة، وفي كل شارع، ولربما في كل بيت، وبحيث تتعطل الحياة في الحقل والمعمل والمدرسة ويتعطل معها كل نشاط يمكن أن يدلل على وجود فعالية بشرية أصلاً.. وهكذا كان، فقد تمكنت المجموعات الإرهابية من عسكرة المناطق التي أخضعتها لسيطرتها – أو ما سمي خطأ “بيئات حاضنة” – وحولتها إلى معتقلات مفتوحة يتحكم بها العملاء والقتلة والخارجون على القانون، وتنتشر فيها فتاوى “الاستتابة” وإلا فالقتل بحد السيف.
لم يكن ممكناً مواجهة هذه الفظاعة الجهنمية، التي تعاملت مع الأهالي والسكان، في المحصلة الأخيرة، باعتبارهم رهائن ومختطفين، إلا من خلال استراتيجية شجاعة وجريئة تدرك تماماً، وبقناعة نهائية، أن السوريين هم الخزان الوطني والإنساني الذي – وحده – يمكن المراهنة عليه، وأن الانتماء المشترك والهوية الواحدة، بل و”المصلحة الجماعية” – إن تطلب الأمر الحديث عن مصلحة – هي الأساس، الأول والأخير، للخروج نهائياً من هذه المأساة (المحنة) التي ضربت السوريين – كل السوريين – في صميم عيشهم واستقرارهم، وأن عودة الروح “روح العيش المشترك”، وإلقاء الذات في كنف الدولة، هما العنوانان الرئيسيان للعودة الكبرى إلى “حضن الوطن”، أو اجتياز “المطهر” الذي يختصر نهاية التغريبة السورية.
تمكنت المصالحات من تحقيق نتائج غاية في الإيجابية منذ الأيام الأولى لإطلاقها، لتفاجئ كل مراهني البترودولار على غسل أدمغة مزمن وطويل الأمد، والوصول، من ثم، بالسوريين إلى نقطة اللاعودة.. كان الأمر بداية أشبه بالخروج من الجحيم، والاستعادة التدريجية للوعي والأمل، قبل الانخراط الكامل في المشروع الوطني، والمشاركة في ترميم مؤسسات الدولة، خاصة مع الانكشاف الفضائحي لأبعاد المؤامرة الدنيئة، ولدور “ثوار” و”متمردين” تحولوا إلى مجرد مرتزقة مأجورين بأيدي مشغليهم، يخوضون معارك الآخرين ضد بلدهم، وفي مواجهة بعضهم البعض، ويمتهنون التصفيات المتبادلة.
مرت المصالحات بانتكاسات عديدة، وكان ذلك طبيعياً بفعل الشد الخلفي الذي مارسته أطراف العدوان والمجموعات المؤتمرة بها. ولكن الآلية كانت تسير قدماً، وكانت تقتطع بالتدريج من المناطق الخاضعة لسيطرة الإرهاب، ومن سطوة الإرهاب نفسه. وفي مرحلة لاحقة، شقت المصالحات مسارات التعافي الخدمي والاقتصادي والأمني، معيدة إلى الصدارة المفهوم الذي تتأسس عليه كل جدارة ومكانة وطنية، وهو أن الدولة، بمؤسساتها الأمنية والعسكرية والخدمية، وبقائدها السيد الرئيس بشار الأسد، هي الحامية والضامنة لحقوق وحريات الشعب، وهي الملاذ الأول والأخير لكل مواطنيها.
طوقت المصالحات انتصارات الجيش العربي السوري بأحزمة أمان أهلية، وأتاحت للقوات المسلحة السورية التفرغ لإنجاز مهامها الرئيسية في الدفاع عن الحدود الوطنية في مواجهة الاحتلال الأجنبي. ولكن اليوم، ومع قرب إسدال الستار على آخر مشاهد العشرية السوداء، تتحرك مجموعات الغدر لتعكير الأجواء، وضرب مناخات الأمن والاستقرار، من خلال تصعيد عمليات الاغتيال التي تستهدف المدنيين والعسكريين من أبناء شعبنا.
غير أن ذلك كله يبقى تهويشات يائسة خلف قاقلة المصالحات التي تسير قدماً، مدفوعة بقوة دفعها الذاتية المستندة إلى استيعاب مؤامرة الحرب ومحرضاتها الخارجية، وإلى المعنى الجديد الذي يمثله حضور الدولة وإلى روح التفاؤل التي تملأ السوريين بمشاعر الثقة والتحدي في خضم أزمة عالمية تنذر بانهيارات مخيفة، وتهدد بالإطاحة بالتوازنات الدولية القائمة، فيما تقف سورية في صف المنتصرين لترسم بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد بداية انطلاقة واثقة جديدة.