مجلة البعث الأسبوعية

الشاعرة الباحثة المغربية فاطمة بو هراكة: الجهات العالمية هدفها استعداء الكتاب واستبعاد الكتّاب

البعث الأسبوعية -غالية خوجة

كأنما قدر الشعراء الإخلاص الذي يسبب لهم التعب من الخيانة والغدر والطعن، ولذلك، تقول فاطمة بو هراكة في قصيدتها “متعبة”: “وكأس دمع يعزف سيمفونية الإخلاص المر، في زمن الغدر تباع الخناجر هدايا مضمخة بالدم الأبيض، لون دمي..لا لون، شراييني مدججة بالعطاء، ساعة الجحود، متعبة أنت يا أنا”.

عطاء بين الألم والأمل

لكنه تعب الضمائر البيضاء بين الأنا المتكلمة ونظيرتها المخاطَبة، تلك التي تجعل الشاعرة الباحثة الموثقة في مجال الشعر العربي فاطمة بوهراكه تتفتّح علامة مغربية عربية بارزة بين “اغتراب الأقاحي” و”بوح المرايا” و”جنون الصمت” وعناوين مجموعاتها الشعرية الأخرى، فتجعلنا نتأمل الألم الذاتي والإنسانية بشفافية الكلمات ودلالاتها المشتبكة بالأمل، وهذا ما يولّد تعباً آخر في الارتحال الكتابي والمكاني، يدفعها إلى السفر والترحال للمشاركة في العديد من المهرجانات والملتقيات العربية، هي التي كرمت في بلدها وغيرها، كما كرمتها منظمة الإيسيسكو عام 2022 وسلمها مديرها العام د.سالم بن محمد المالك درع التكريم، وشغلت عدة مناصب ومهام، منها أنها كانت رئيسة جمعية دارة الشعر المغربي، ومديرة مهرجان فاس الدولي للإبداع الشعري، وعضو في أكثر من لجنة وجائزة، منها عضو اللجنة العلمية لجائزة حسان ناصر للإبداع بين عامي 2017 و2021، عضو لجنة تحكيم جائزة اتحاد كتاب أفريقيا للشعر 2022، كما أنها عملت في المجال الإعلامي فأعدت وقدمت برنامج “رنين الكلم” بإذاعة فاس الجهوية عام 2013، وهي عضو اتحاد كتاب المغرب.

الترسيخ سرّ التوثيق

ثم، انعطفتْ إلى جدية التوثيق الشعري على مساحة الوطن العربي بجهود فردية قد تعجز عنها مؤسسة ما، وأغنت المكتبة المغربية والعربية في هذا المجال، إضافة لكتاباتها الشعرية والبحثية ودراساتها النقدية، وأيضاً، ما كتب عنها دراسة وشعراً منها “شراع المحبة عام 2014.

وكل هذا، بلا شك، يدفعنا إلى عدة تساؤلات، أولها: كيف ولماذا اتجهت إلى البيبلوغرافيا الشعرية العربية؟ وماذا عن معاناتك وسعادتك في هذه الإنجازات؟

فأجابت: مجال التوثيق الشعري عشقي الكبير الذي ابتليت به منذ دراستي في الثانوية عندما لاحظت قلة الاهتمام بالتوثيق لشعراء كبار عانوا التهميش في حياتهم وبعد وفاتهم أيضاً، مما جعلني أستجمع كل تجاربي الشعرية والجمعوية والإعلامية وعلاقاتي الإنسانية من أجل المساهمة في ترسيخ الصوت الشعري العربي عبر توثيقه، فكانت الانطلاقة الحقيقية عام 2007م، عندما أعلنت عن اشتغالي على كتاب توثيقي اخترت له في الأسماء (الموسوعة الكبرى للشعراء العرب خلال سنوات 1956-2006)، والموسوعة، طبعاً، تضم شعراء من مختلف العرقيات والديانات والأيديولوجيات و المدارس الشعرية.

خصوصيات وقواسم مشتركة

ترى، ما الذي لفت نظرك؟ وقلبك؟ وما أهم الجماليات التي استخلصتها من تجربة الشعراء العرب أثناء عملك التوثيقي لآلاف الشعراء والشاعرات عبْر (11) كتاباً بدأت بهذه الموسوعة وانتهت مع موسوعة الشعر المغربي الفصيح؟

 

أكدت بأن مشروعها التوثيقي الشعري لم ينتهِ بعد، وأضافت: أتمنى من الله أن يطيل عمري حتى أفعل، رغم أني أشعر ببعض اليأس من حين لآخر بسبب غياب الدعم المادي والمعنوي من الجهات المسؤولة ثقافياً فتجدني أصارع كل الصعاب والخيبات وحدي حتى يظهر العمل، والشعر العربي له خصوصيات في كل بلد رغم وجود قواسم مشتركة في المضامين والشكل.

الحرب أثرت في الشاعر السوري الأصيل

لكن، ماذا عن الشعر السوري؟

أجابت: مما لا شك فيه أن الساحة الشعرية السورية لها شعراء وشاعرات يشار إليهم وإليهن بالبنان، وكان لهم ولهن تأثير كبير في الساحة الشعرية والثقافية على المستوى العربي إلاّ أن هذه الساحة أصيبت بانتكاسة كبيرة جراء الحرب التي أثرت في نفسية الشاعر السوري الأصيل، وتركت المجال لظهور بعض مدعي الشعر داخل وخارج سورية.

 العشق الكبير

وحين سألتها عن احتمالات أخرى: لو لم تنعطفي إلى البحث والتوثيق، ماذا كنت أضفت لتجربتك الشعرية؟ وهل كنت اتجهت إلى ترجمة مختارات من الشعر العربي إلى اللغة الفرنسية مثلاً؟ أو جعلت من ذلك مشروعاً كما سلمى الخضراء الجيوسي مثلاً؟

قالت: لا أستطيع الحكم على هذه التجربة وكيف كانت ستكون، لكني أعلم جيداً أن مجال التوثيق الشعري ولجته بعشق كبير رغم كل الصعاب والمعاناة، ومسالة الترجمة تحتاج لخبير لغات ولا أزعم ذلك.

لا للثقافة الهجينة

وعن الأثر الإبداعي ومتى يكون وشماً في التأريخ كما تقولين مثلاً في قصيدتك “وفيك امتدادي”؟

أجابتنا: عندما يكون صادقاً وله رسالة حقيقية وسامية، بعيداً عن الفلسفة الذاتية الفارغة الموغلة في الأنانية والغموض، فالشاعر هو ابن بيئته لا ابن سفاح فكري غربي يحاول تلقيح جيناته بوطنه الذي لا يتحمل هذه الثقافة الهجينة.

المشاكسة تجربة ممتعة

ولأن لها قصائد مشاكسة للفنون، سألتها: ماذا عن المشاكسة بين الشعر والفن التشكيلي والغناء؟

أجابت بابتسامة: هي أفكار قمت بتحقيقها عام 2001م، وتحديداً، عندما طبعت مجموعتي الشعرية الأولى (اغتراب الأقاحي) التي ضمت عدة لوحات تشكيلية لفنانين مغربيين هما: عبد القادر بوطافي، ونعيمة الملكاوي، وخلال عامي 2011 و2013 اخترت عدة أغانٍ عربية لمطربين مختلفي الجنسية وشاكستهم شعراً عبر قناة يوتيوب، وأعتقد أنها من التجارب الممتعة التي اشتغلت عليها في مساري الأدبي.

المسرح بلغة الضاد متراجع

لك تجربة في المسرح الشعري مع الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح “فيتو على نون النسوة”، ولك مساهمات مشتركة مع عدد من الشعراء في دواوين أخرى، ماذا عن التجربة المشتركة؟ ما إيجابياتها وسلبياتها؟ وأين المسرح الشعري العربي المعاصر؟ ولماذا؟

أجابت: (فيتو على نون النسوة) مسرحية شعرية بيني وبين الشاعرة الكويتية الكبيرة الدكتورة سعاد الصباح أنجزت وعرضت بفاس المغربية عام 2007م، وناقشت عدة مواضيع نسائية بين الشرق والمغرب في قالب شعري رصين، وعنوان المسرحية مقتبس من قصيدة للصباح، وكان الهدف ترك صرخة شعرية عن أوضاع المرأة العربية اجتماعياً، اقتصادياً، سياسياً وحتى ثقافياً.

واسترسلت: أما المسرح العربي بلغة الضاد فأعتقد أنه في تراجع كبير فلم نعد نشاهد أعمالا مهمة كسابقاتها خلال ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي.

وتابعت: لا أرى في التجارب الكتابية المشتركة سلبيات، ولي في هذا المجال مجموعات مع ثلة من الشعراء، وأصدرنا مثلاً (احتراقات عشتار 1995م، غدائر البوح 1996م، وشم على الماء 1997م، بهذا وصى الرمل 1998م).

“النت” إعلامي لمن هبّ ودبّ

معروف عن الشاعر العربي بأنه صوت إعلامي أيضاً، فماذا بين الإذاعة والإعلام؟

أكدت: مع الانفتاح التكنولوجي وظهور الإنترنت بمختلف تخصصاته عرفت عدة مجالات تراجعاً ملموساً من حيث الجودة والاحترافية المهنية وعلى رأسها الإعلام بمختلف أنواعه من مرئي ومسموع ومكتوب، فأصبح من هبّ ودبّ يحمل اسم “إعلامي” مما انعكس سلباً على هذا المجال الذي ظل رصيداً حتى نهاية القرن الماضي، ولم يسلم الشعر أيضاً.

المبدعون يتوقفون بسبب المؤسسات الثقافية

وماذا عن الجهات المعنية بالثقافة، وهل تساهم بدورها كما يجب؟ ما الواقع وما الطموح؟

ردّت: أحياناً، تراودني فكرة مفادها أن المؤسسات الثقافية بعالمنا العربي خلقت لقتل المشاريع الثقافية الجادة لا لدعمها وتقديمها للعالم، وهذا الأمر يجعل العديد من المبدعين يتوقفون عن مسارهم ويتركون المجال مفتوحاً لأشباه المبدعين الذين يجدون الدعم جاهزاً لهم سواء في المشاركات أو طباعة الأعمال مهما كان مستواها.

سعيدة حدّ الحزن!

فاس مدينة روحانية ولد فيها العارفون، ما دورها كمكان في طفولتك وحياتك وكرمز في أعمالك لا سيما أنها الفرح المغترب الخيول كما في قصيدتك أنين الشوق والحجر؟ وهل ما زلت “سعيدة حد الحزن”؟

بمحبة نابضة أجابت: فاس القلب الخافق الذي علمني لغة التحدي والصمود مهما كانت النتائج، والتاريخ المشرف لأبنائه البررة، أما سعادتي فمازالت ـ للأسف الشديد ـ حـــد الحزن، وفرحي الأوحد هو تحقيق ما استطعت تحقيقه من منجزات ولله الحمد.

لا للتهميش

منذ 13 شباط عام 1974 وبعد صرختك الأولى للحياة، وأنت تجدفين بقواربك بين أمواج القصيدة والبحث عن غيبها، ما مستقبل الشعر في غياهب العصر الالكتروني؟ وأين النقد العربي في هذه الراهنية؟

كمن يقبض على بصيرته، قالت: الخوف كل الخوف على مستقبل الشاعر العربي في بلده لأنه يجد تهميشاً كبيراً من قبل مؤسساته الثقافية التي من المقترض أن تكون مدعمته ومنصفته، وهذا الأمر ينعكس قطعاً على إنتاجه الشعري وصموده.

وأكملت بحسرة: نحن أمة “إقرأ” التي تحولت لأمة لا تقرأ وأصبح الكتاب عدواً لها خدمة لأجندات عالمية هدفها تبخيس الشأن الثقافي عموماً والشعري خصوصاً، وإعلاء القوة والهيمنة لأصحاب المال حتى وإن كانوا جهلة، وبالتالي، تم استبعاد العالم والأديب والمفكر عن سدة القرار، والنتيجة أننا في قاع التقدم العالمي الذي يتحكم فيه أصحاب العلم والفكر بمختلف تخصصاته.

أطارد طموحي

ماذا تضيفين وبأية الأسرار تخصينا؟

اشتغلت على العربية توثيقاً شعرياً، لكني لم أشتغل بعد على ما أطمح إلى تحقيقه، وذلك راجع لغياب الدعم المادي من قبل المؤسسات الثقافية، وآمل أن تتحسن أوضاعي المادية حتى أستطيع إنجازه وأنا على قيد الحياة بإذن الله.