الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

متاهات التعب

سلوى عباس

ثمانية أشهر مضت على انتهاء عملي الوظيفي، ومع ذلك لا زال القلق يركض في داخلي يسابق الوقت، فأصحو مبكراً على ذات التوقيت الذي كنت أستيقظ فيه سابقاً، أصحو على حالة مربكة أغالب النعاس الذي يثقل جفوني، لكن دون جدوى.. أشعرُ بحالة اغتراب موجعة، ليس لأنّني فقدت إحساسي بالطمأنينة والسلام، ولا لأنَّ ذاكرتي مثقلة بالوجع، حالة لا أدرك كنهها، أشعر أنني لست أنا، مرهونة أحاسيسي للحزن، إذ فجأة وجدت نفسي وحيدة في اتساع الدنيا، تنهش الوحشة روحي، وتملأ مرارتها عروقي.. أرى نفسي على مفترق الحياة كما شجرة تهزها الريح مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال، تقتلني الفوضى التي تضج في روحي.

كنت قد غادرت نفسي إلى أفق الوجع، أفتح قلبي للوساوس تزرع موتها في روحي.. كنت قد نسيت حالي هناك على ذاك المنحدر طفلة تحبو إلى الحلم.. نعم! نسيت هذه الطفلة وركبت قطاراً من القلق يربكني ويقذفني لمتاهات التعب، كان عليّ أن أمسك بها وأعلمها أن الحلاوة التي ذاقتها يوم كان الحبو موسيقا ليست الصورة الأمثل لهذا الكون، وأن الشوك الذي تنام عليه اليوم وحده سيعلّمها أن مقداراً من الأرق سيفسح لها فرصة من العمر لتتبع ولادة الزهرة.. هي رغبة الحياة وسط الموت، تدهشنا وردة شقت الصخر لتنبت، أو رفعت عن وجهها الثلج لتشرق.. كنت أظن أني لا أقل عن الورد، ولا عن عشق عباد الشمس، فأراه مشرقاً ومغرياً أسير الضوء، في رغبة أن تدور الشمس في مداري فيكون إشراقها حيث أكون، وتغرب ساعة تغفو عيناي.. أحاول أن أستبدل حلماً خذلني بآخر أكثر نداوة، وأبحث عن صوت عصفور يتسلل وراء الأفق مع ضوء الصباح القادم.. أحاول محو العبث الذي يغلف حياتي بالحب.. ربما أكون أضحك على نفسي بهذا الوهم/ الحلم الذي أضطر لخلقه حتى أستمر في حياتي المؤجلة التي كل يوم أقول أعيشها غداً، وهذا الغد لم يأت بعد، وعندما تلح عليّ الغربة والوحدة أحاول أن يكون الورق القطار والقلم نافذة أطل بها على المدى.. شغفي الحالم يغازل روحي، يشدني للحياة منذ أدركتها، وهذا أكبر دليل على نداوة الورد المتفتح في روحي، فكم أتمنى أن أستعيد جدوى ما أعيش لأن ما في داخلي يعادل لون السماء وعلوها، يتماهى برائحة التراب المندى بالمطر، فالشغف سر لا يملكه إلا الأوفياء الذين عجنت أرواحهم بالعشق.. والحب هو حالة اكتفاء عسانا جميعاً أن نحققه، حتى إذا انتهى وانكسر، فإنه يستمر من خلالنا وعبرنا كحالة نفسية مستمرة، نبتدعها كل يوم.

هذه هي الحياة لغز مغلق على أسراره، وقطار يسافر الناس فيه وكل ينزل في محطة عساه يلقى أحلامه الهاربة من ذاته ويستبشر بأمل تحققها، ليبقى الانتظار حالة يعيشها كل إنسان بطريقته والغاية التي ينشدها من انتظاره، ولو أنه في مكان مستباح وفاقد للخصوصية لا يمكن أن يكون الانتظار إلا حالة هروب من واقع مهزوم وأرواح موجوعة تنشد الأمل بتحقق أحلامها، فهل لانتظاري من حلم عساي أحققه.. هل من صوت دافئ يخفف كثافة ألمي، أم أنه صار أبعد من مداراتي!