البيت الدمشقي مظلة الفيء والرطوبة.. قراءة في أدب نزار قباني
حين يتصدر البيت الدمشقي عنوان كتاب، وتستحوذ دمشق على إهدائه، وحين تتلبس المدينة الكاتب حد الإفراط في العشق، سيغزو كالياسمين وأنت تقرأ الحروف عبقاً يشي بتفاصيل دمشقية معششة في الذاكرة، فإذا بدمشق تسري في شرايينك عشقاً حتى لو لم تكن دمشقياً، فكيف إذا كنت معتّقاً حتى ثمالة العشق والانتماء؟ حينئذ سيعجن الكاتب ذاكرتك الدمشقية ويعيد تشكيلها في بوتقة للعشق فريدة، بوتقة نزار قباني، العاشق الدمشقي العتيق الذي تنهل مدارس العشق من عطره على مدى الأزمان.
“البيت الدمشقي مظلة للفيء والرطوبة، قراءة في أدب نزار قباني” كتاب للباحث غسان كلاس صادر عن دار المقتبس عام 2021، وحائز على جائزة الأسدي لتوثيق التراث، نظراً لتوثيقه العمارة الدمشقية ولا سيما البيت الدمشقي وصفاً وتصويراً لأدق التفاصيل، ولا عجب أن يكون الكتاب توثيقياً على الرغم من أنه قراءة في أدب نزار، وهل مثل نزار وصّف دمشق وأطلق تفاصيلها للعالمية في شعره ونثره؟
تسلسل منطقي
لم يبدأ الباحث بشعر نزار بشكل مباشر، وإنما بدأ في تمهيده للكتاب بمفهوم التراث بشكل عام بشقيه المادي وغير المادي موضحاً غنى الأرض السورية بهذا التراث، فهي أرض الحضارات ومنها “كانت بدايات العطاء، ففيها زرعت حبة القمح الأولى، واكتشف النحاس على ضفاف الخابور، وفيها صنعت خليطة البرونز (…) وفيها ظهرت مقدمات الكتابة، وأول سلم موسيقي..” (ص 14)، لينتقل بعد ذلك في الفصل الأول إلى البيت الدمشقي كأحد أشكال تراث هذه المدينة العريقة، وهنا ينتقل من السوري عموماً إلى الدمشقي خصوصاً، واصفاً من خلال هذا الفصل التشكيل العمراني ليس للبيت فقط، وإنما بدأ من الحي الذي نجتازه للوصول إليه، “وتتصل تلك الأحياء السكنية مع شبكة الشوارع الرئيسة للمدينة بواسطة (درب)، وتصب في هذا الدرب شبكة أصغر من الشوارع الثانوية التي يطلق على كل منها اسم (زقاق).. أما الحارات فهي وحدات عمرانية مستقلة مغلقة في أغلب الأحيان..” (ص 16).
وهو لا يكتفي بوصف التشكيل العمراني لهذه الأحياء، بل يتجاوزه ليحدثنا عن انعكاس هذا التشكيل على الحالة النفسية لقاطنيه وعلى العلاقات الأسرية والثقافة السائدة في تلك الحارات الشعبية القديمة: “جزيرة سكنية تنعم بأفضل شروط السكن، فهي بعيدة عن ضوضاء حركة المرور، ويترابط الأهالي – فيها – بحبل حسن الجوار أو القربى” (ص 17).
ثم لا يلبث أن يدخل بنا إلى داخل البيت ليعرّفنا على خصائصه العمرانية التي جعلت منه مظلة للفيء والرطوبة، كمواصفات الأسقف والجدران، ويعدد لنا بعض أقسامه كصحن الدار والدهليز والمشكاة والإيوان والقاعة، وبعض مكوناته الداخلية كالفسقية والكتبيات والخرستان وغيرها، فضلاً عن وصف النباتات التي تنتشر في الفناء من الياسمين للعريشة للنارنج والكباد وأنواع الورد. وكل ذلك بوصف تفصيلي دقيق يجعلك تتجول معه في البيت بمنتهى اليسر.
وينتقل بعد هذه الرحلة إلى الفصل الثاني ليصحبنا إلى عالم نزار قباني وومضات من سيرته الذاتية ومنهجه الشعري ومفهوم التراث في فكره، لتكون هذه الومضات مدخلاً للفصل الأطول في الكتاب والذي يربط كل ما سبق بلحمة متينة، ويدخل معنا في تفاصيل هذه العلاقة بين العناصر الثلاثة: التراث، البيت الدمشقي، نزار.
البيت الدمشقي في أدب نزار
كان هذا هو عنوان الفصل الثالث الذي امتد ليشغل حوالي نصف الكتاب، وهذا ليس عبثاً، فالمعجم الشعري لنزار يعجّ بالمفردات التراثية الدمشقية المأخوذة من بيئته التي ولد وترعرع فيها، وأبرز ما يميز هذه البيئة هو بيته الدمشقي الذي وصفه بأنه “قارورة عطر”، فمن الطبيعي أن يتعطر شعره بمكوناتها المختلفة.
قام الباحث في سياق هذه الدراسة بعملية إحصائية للمفردات التراثية التي وردت في قصائد نزار ومنها: فسقية، ياسمين، وشاح، دورق، سراج، إيوان، قنباز، كشمير، قبقاب، حرملك، سلاملك، بروكار دمشقي، غزل البنات.. ثم يوضح بعد ذلك دلالات هذه التراثيات عند نزار، إذ “لم تأت “تراثيات نزار” إن صح التعبير، جامدة، معزولة عن السياق والدلالة، بل أتت من فيض ما تختزنه الذاكرة من معانٍ ومواقف وأحداث تأخذ من وجدان الشاعر وكيانه وتجاربه” (ص 71).
فمن مدريد، يصبّح نزار على أمه “مشيراً إلى رحلته الخرافية، وصباح بلاده الأخضر، وأنجمها، وأنهرها، وطرابين النعناع والزعتر، وليلكتها التي خبأها في حقائبه وملابسه..” (ص 72).
ثم يتحدث عن آليات توظيف هذه العناصر التراثية في نصوصه على اختلاف أغراضها، مستشهداً ببعض العناصر الأكثر تكراراً، كالياسمين التي استخدمها “في موضع غاية في الأهمية عندما يقول:
كيف يمكنني ياسيدتي
أن أقطف الياسمين
من بساتين يديك
والنظام العالمي الجديد
ألغى قصائد الحب العربية
وشنق قيس بن الملوح
على ضفائر ليلى العامرية” (ص 82).
ومن المفردات الكثيرة التي أوردها أيضاً طاحونة البن: “للقهوة، كما هو معروف، طقوسها في إعدادها وألوان بنها، وكمية الهال فيه، ولكن هذه الطقوس تأخذ طابعاً مميزاً وشكلاً مختلفاً في البيوت الدمشقية، (..) وهذا ما اختزنته ذاكرة نزار قباني في طفولته، عندما قال:
طاحونة البن جزءٌ من طفولتنا
فكيف ننسى؟ وعطر الهال فواحُ” (ص 110).
وإذ يضيق المجال عن الإحاطة بكل ما أورده الباحث من عناصر تراثية وظّفها نزار في شعره بشكل يتفق مع ذاكرته الدمشقية المعتقة وروحه الوطنية الهادرة، لا يسعني إلا أن أثمّن هذا الجهد البحثي للدكتور غسان كلاس، هذا الجهد الذي يحمل القارئ على بساط العشق الدمشقي إلى أروقة العالم التراثي السحري لعاشق دمشق الأصيل.. نزار قباني.
سمر أحمد تغلبي