ستون عاماً على استقلال الجزائر.. ذكريات مدفونة تحت أساطير التهدئة
هيفاء علي
لا تزال ذاكرة الجزائريين تحتفظ بأشدّ أشكال القسوة والظلم والحرمان إبان الاستعمار الفرنسي، وقد جسّد هذه المعاناة كمّ كبير من الروايات والأفلام والقصص، ومن أشهرها حين قام جيش الاستعمار الفرنسي بتجميع سكان عدد كبير من القرى الجزائرية في عملية يُشار إليها باسم “التهدئة”، حيث تمّ حشر أكثر من مليوني جزائري في معسكرات تخضع للسلطة العسكرية، ما أدى إلى تفكيك المجتمع الريفي.
وكانت صحيفة “باري جورنال” قد نشرت، عام 1959، تحقيقاً موسعاً حول هذه المعسكرات بعنوان “في ألف قرية من قرى إعادة التجميع، يتعلم مليون جزائري العيش في القرن العشرين”، في إشارة إلى المعسكرات التي حشر فيها الجيش الفرنسي أعداداً كبيرة من سكان الريف الجزائري، بقصد مواجهة المعارك التي تقودها جبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير الوطني.
وفي معرض ردّه على منتقديه، تذرّع الجيش الفرنسي بأنه يعمل من خلال ذلك على ضمان “حماية” سكان الريف من “المتمردين” الجزائريين، بل وحتى العمل على ترقيتهم اقتصادياً واجتماعياً من خلال تهيئة “قرى جديدة”. كانت هذه الاستراتيجية الخطابية لا تخلو من المفارقات، حيث فرض هذا الخطاب على الساحة العامة صورة “القرية” بدل “المعسكر”، ما عزّز الكبت الجماعي تجاه إحدى أضخم حالات عنف الدولة في التاريخ المعاصر.
بالفعل، عند نهاية الحرب، كان ما لا يقلّ عن 2,35 مليون جزائري يصارعون من أجل البقاء في هذه المعسكرات. وبالتالي، فإن ما يقارب من ربع سكان الريف كانوا يخضعون للاعتقال الذي يتسم بالتسلط العسكري، وغياب الحريات الأساسية، وهشاشة اقتصادية واجتماعية مستدامة في الغالب.
لقد قام الجيش الفرنسي وسلطات الاستعمار الفرنسي بإنشاء ما لا يقلّ عن 2392 من هذه المعسكرات على الأراضي الجزائرية خلال حرب الاستقلال، وتمت عمليات الترحيل الأولى -التي وُصفت على أنها انسحابات- بتحريض من الإدارة المدنية والكوادر العسكرية ابتداءً من تشرين الثاني 1954، لإجبار الجزائريين على إظهار طاعتهم للسلطة. ومن خلال تبني مبدأ “إعادة التجميع النهائي”، مع تقييد إمكانيات التمويل، سعت الإدارة المركزية بالجزائر إلى الحدّ من تنمية هذه الإستراتيجية، في وقت كانت السلطات الإقليمية تتبناها كحجة لإضفاء الشرعية على تكثيف عمليات التهجية، وهي ديناميكية متناقضة استمرت بعد عام 1959، عندما تبنى الممثل الجديد للحكومة في الجزائر، بول ديلوفريي، مبدأ “التجميع النهائي” بإطلاق برنامج الـ”ألف قرية”!.
كانت هناك ثلاثة أهداف لهذا البرنامج: إخماد الفضيحة النسبية الناجمة عن نشر تقرير “روكارد” من خلال مجهود دعائي مكثف، وخلق ديناميكية تسمح باسترجاع السلطة المدنية لصلاحياتها التقليدية، وبالتالي استعادة التحكم بالإنفاق العام الذي استباح الجيش لنفسه إدارته، وإحداث تحول لدى السكان والمجتمع الريفي في إطار مخطط قسنطينة من خلال الإكثار من هذه “القرى الجديدة”، التي عُهد تقييمها إلى مفتشية عامة للتجمعات السكانية، لكنها كانت ضعيفة ولم تدم طويلاً. لقد استخدمت حجة تحويل هذه المراكز إلى قرى بشكل أساسي لإضفاء الشرعية على استمرار إعادة التجميع، حتى جعلها عملية ممنهجة في مناطق معينة، وقد بلغ هذا المنطق ذروته مع الجنرال جان كريبان.
تتصف مراكز التجميع، التي تعدّ نوعاً معيناً من المعسكرات، بغياب شديد للتجانس، حيث يتمّ تهجير سكان قرى بأكملها بالقوة العسكرية، أو بتجميع لاحق لجزائريات وجزائريين فارين من مناطق القتال، وكذلك بسبب طرق الإقامة في المعسكرات من خلال النقل إلى قرى تمّ إخلاؤها أو إلى أخرى ما تزال مأهولة، أو إنشاء معسكرات جديدة قريبة إلى حدّ ما من أراضي المنشأ.
في هذه الأماكن الخاضعة للمراقبة العسكرية، تعتمد الحياة اليومية للسكان المهجّرين بشكل أساسي على الانضباط الذي تفرضه السلطة من خلال إرساء طقوس للحياة اليومية، ورقابة صارمة على المداخل والمخارج، ومراقبة الأنشطة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، سواء كانت تندرج ضمن المجال الجماعي أو الأسري، بل حتى ربما هيكلة وتنظيم المدنيين وفقاً لمبدأ “التسلسلات الهرمية الموازية” الذي يفضله أعضاء المكتب الخامس.
وكون هدف التجميع هو تشكيل “مجموعة الدفاع الذاتي” التي تسمح نظرياً بتحرير القوات العسكرية المسؤولة عن مراقبته، يسعى قادة الأقسام الإدارية المتخصّصة جاهدين للحصول على تأييد -إن لم يكن انخراط- الجزائريات والجزائريين. ويعتمدون في ذلك على ترسانة من التقنيات التي تتراوح بين الإكراه (من العنف الرمزي إلى العنف الجسدي) والإقناع، وذلك من خلال توزيع الأغذية، وبناء المساكن، والتشغيل في ورشات العمل.
كما حرمت خسارة وسائل الإنتاج -وهي ظاهرة واسعة الانتشار دون أن تكون ممنهجة- غالبية العائلات المهجّرة من وسائل عيشها التقليدية، دون أن يتمّ تقديم وسائل جديدة لها، ما جعل هذه الأسر عرضة لشكل آخر من الاعتماد على الإغاثة الغذائية واللباس التي توزعها الإدارة أو المنظمات الخيرية القليلة والتي سمح لها بدخول المعسكرات بعد عام 1959.
هذه الأزمة الممنهجة كانت حالة عامة في هذه المعسكرات، وبات ارتفاع معدل الوفيات ملحوظاً، حيث تشير التقديرات إلى أن نحو 200 ألف جزائري -أغلبهم من الأطفال- لقوا حتفهم هناك، وأن هذه الوفيات هي نتيجة مباشرة لتواجدهم في المعسكرات. لكن رغم كل ذلك، لا تزال معسكرات التجميع -التي تبدو ذاكرتها مدفونة تحت أساطير التهدئة- مجهولة إلى حدّ كبير.