دراساتصحيفة البعث

انقسام أمريكي حول “الناتو”

عناية ناصر

أظهر استطلاع حديث أجراه مركز “بيو” للأبحاث أن 53 في المائة من اليمين الأمريكي لهم رأي إيجابي بالناتو، مقارنة بـ 81 في المائة من اليسار السياسي. إن مثل هذا الاختلاف هو الأكبر بين اليسار واليمين، لكن بشكل عام لدى المحافظين الأمريكيين موقف سلبي تجاه حلف الناتو أكثر من موقف الولايات المتحدة ككل، حيث ينظر 67٪ من الأمريكيين إلى المنظمة بشكل إيجابي. وقد تجلى ذلك بالفعل على خلفية العملية الخاصة لروسيا في أوكرانيا، حيث رفض بعض السياسيين الجمهوريين الناتو، واصفين إياه بأنه “من مخلفات الحرب الباردة”، بينما شكك البعض فيما إذا كان دعم واشنطن لحلف الناتو يجب أن يكون غير مشروط.

يعكس موقف اليمين تجاه الناتو انعزالية تزداد شدة في الولايات المتحدة، وهي أيديولوجية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالشعبوية إلى حد ما. تقوم هاتان الفكرتان على أن الدولة يجب أن تستخدم مواردها لحل المشاكل المحلية، وأن على الولايات المتحدة ألا تشارك كثيراً في الشؤون الدولية باستثناء الموجودة في قارتها، لاسيما في النزاعات بين الدول الأوروبية. وفيما يتعلق بحلف الناتو، تتشارك الانعزالية والشعبوية في التشكيك بقيمة الناتو، ونظراً لأن قوة واشنطن في تراجع نسبي ويشعر الرأي العام الأمريكي بمزيد من التشاؤم بشأن مستوى معيشتهم، فإن إلتقاء الشعبوية والانعزالية أمر حتمي.

في نيسان الماضي، صوت ما يقرب من ثلث النواب الجمهوريين ضد قرار لإعادة تأكيد دعم الناتو ومبادئه، وقالت صحيفة “واشنطن بوست” في وقت لاحق إن هذا يظهر” الابتعاد الملحوظ” للحزب الجمهوري عن الناتو في السنوات الأخيرة. وأضافت: “إن الموقف الانعزالي لبعض الجمهوريين يتماشى مع روح استراتيجية ترامب أمريكا أولاً”.

كان عام 2016 نقطة تحول في إحياء الانعزالية في الولايات المتحدة، فقد تبنى الرئيس السابق ترامب شعار “أمريكا أولاً” الذي كان يحظى بشعبية بين الانعزاليين الأمريكيين قبل الحرب العالمية الثانية. وتحت هذا الشعار، حقق ترامب نصراً يبدو مستحيلاً في الانتخابات الرئاسية في ذلك العام، حيث أصبح الرمز الأبرز للانعزالية والشعبوية الأمريكية.

كان ترامب، الذي كان يطلق على الناتو “عفا عليه الزمن”، دائماً “متشككاً قوياً في الناتو” منذ البداية، حيث أكد جون بولتون، مستشار الأمن القومي في عهد ترامب، أن ترامب “قد ينسحب من الناتو” في حال فوزه بولاية ثانية. صحيح أن السنوات الأربع التي قضاها ترامب في منصبه فوضوية ومثيرة للجدل، لكن شعاره “أمريكا أولاً” لا يزال يؤثر على المشهد السياسي الأمريكي ختى اليوم.

يعيش العديد من الجناح اليميني في الولايات المتحدة في المناطق النائية نسبياً في البلاد دون أن يستفيدوا كثيراً من العولمة، لأنهم يشعرون أن الولايات المتحدة قد ساهمت في تنمية العالم أكثر من مساهمتها في تنمية أمريكا. من الناحية النظرية، نشاً مفهوم “الانعزالية الأمريكية” من عقيدة التحالفات غير المستقرة التي طورها جورج واشنطن، وتجادل هذه النظرية بأنه بما أن مصالح الأمة يمكن أن تتغير في أي وقت في مواقف مختلفة، فمن المستحيل إقامة تحالف عسكري دائم بين الدول، ومن ثم، فإن كل التحالفات ستكون تدابير مؤقتة.

ربما لا يفكر الانعزاليون الأمريكيون اليوم بشكل منهجي كما فعل جورج واشنطن. إنهم يطلقون أحكاماً بسيطة بناءً على حواسهم، لكنهم يشعرون أن تكلفة التحالفات باهظة. إنهم يشعرون أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل المزيد من الاستثمار في التحالفات لمنح الدول الأصغر”الانتفاع بالمجان”. إنهم يشعرون أنه يجب إنفاق الأموال على الشؤون الداخلية، لا سيما في المناطق الفقيرة والمتخلفة نسبياً، بدلاً من إنفاقها على الحلفاء.

على المستوى المجتمعي، أظهر خطاب الانعزاليين المناهض لحلف الناتو تأثيراً متزايداً في الولايات المتحدة، كما وجد صدى له في النخب السياسية في البلاد. في شهر أيار الماضي، على سبيل المثال، وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على حزمة مساعدات إنسانية وعسكرية طارئة بقيمة 40 مليار دولار لأوكرانيا، وكان الـ 11 الذين لم يصوتوا على القرار كلهم من الجمهوريين، وفي وقت سابق صوت 57 جمهورياً ضد مشروع القانون في مجلس النواب.

سيستمر “جسد” الناتو في الوجود لفترة طويلة، لكن “روحه” أصبحت هائمة، حيث دخل تماسكه واستقراره في حالة من الاضمحلال المزمن.في مواجهة الأزمة الأوكرانية، فرضت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية عقوبات اقتصادية ضخمة على روسيا بهدف ضرب و تدمير الاقتصاد الروسي، ولكن نتيجة ذلك عطلت هذه العقوبات سلسلة التوريد العالمية للطاقة والمنتجات الأخرى، وفاقمت إلى حد كبير التضخم الموجود في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.

في نهاية المطاف، يمكن القول إن الديمقراطيين محكوم عليهم بخسارة أغلبيتهم في مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي لهذا العام، بينما لا تزال نتائج انتخابات مجلس الشيوخ غير متوقعة. ومع ذلك، فإن ظهور المزيد من الجمهوريين الشعبويين في مجلس النواب يؤكد أن الانعزالية قد أوجدت المزيد من العقبات أمام إدارة بايدن، التي هي بالفعل في مأزق.