دراساتصحيفة البعث

ما الذي يجري في سيرلانكا؟

هيفاء علي

كما جرت العادة، تحدثت معظم وسائل الإعلام الغربية عن الوضع الراهن الذي تشهده سيرلانكا هذه الأيام على أنه انقلاب على شكل ثورة ملوّنة، متجاهلة القضايا الجيوسياسية، وواقع البلد، والأسباب المرتبطة بالخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى رأسها التدخل المباشر للدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت طوال 30 عاماً تهدف إلى جعل سريلانكا منصة للعدوان على الصين.

تحدثت معظم التقارير الصحفية عن معلومات مضلّلة حول هروب الرئيس السيرلانكي، وتعيين رئيس الوزراء رانيل ويكريميسنغ رئيساً جديداً بدعم من الطبقة السياسية بأكملها (الأغلبية والمعارضة) وبدعم من الدول الغربية، وخاصة السفارة الأمريكية. ورانيل هو رجل المصالح الأمريكية، وهو زعيم محافظ منذ ما يقرب من خمسين عاماً، وعضو شديد الليبرالية والنشط في نادٍ مغلق للغاية لجمعية “مونت بيليرين”.

أما غوتابايا راجاباكاسا الرئيس المستقيل، فهو شقيق الرئيس السابق، صاحب الشخصية الكاريزمية ماهيندا راجاباكسا، الذي وصل إلى السلطة في نهاية عام 2019 بدعم شعبي. مع ذلك، على الرغم من نقاط القوة هذه، لم يخن غوتابايا التزاماته فحسب، بل استسلم قبل كل شيء لضغوط الولايات المتحدة، ولاسيما فيما يتعلق بتنفيذ البرامج التي تتكوّن من التخلي عن جزء كبير من الأراضي التابعة للدولة لمصلحة المجموعات متعدّدة الجنسيات، وخاصة المصالح العسكرية الأمريكية مما يسمح لها بتهيئة الظروف لتقسيم البلاد بهدف تحويلها إلى قاعدة عسكرية واسعة على شكل حاملة طائرات.

في ظل هذه الظروف، ازداد حجم الديون، وتراجعت الروبية، وكان لانهيار السياحة بسبب الأزمة الوبائية والانخفاض الكبير في تحويلات العمال المهاجرين آثار مدمرة على موارد البلاد وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية، وعدم توريد النفط والغاز، وانفجار التفاوتات. ونتيجة هذا الوضع المتأزم والذي تمّ تجاهله لفترة طويلة، نشأ غضب مشروع بين أكثر قطاعات المجتمع حرماناً من خلال الإضرابات الضخمة في القطاع العام.

علاوة على ذلك، وبينما كانت هناك احتمالات كبيرة للحصول على مساهمة كبيرة من روسيا ومن إيران لتلبية احتياجات البلاد من الطاقة، رفضت الحكومة هذه المساعدة، حتى لا تغضب واشنطن، فلجأت إلى الاستدانة من صندوق النقد الذي أعلن من جانبه أنه سيجعل مساهمته مشروطة بأطراف سياسية واجتماعية، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تغرق فيها البلاد مرة أخرى.

في ظل هذه الظروف، أثارت بعض القوى السياسية ووسائل الإعلام السخط الشعبي بجعله يتبلور ليس على الأسباب الحقيقية، بل على عائلة راجاباكسا وعجزها ومحسوبية الأقارب. كان هذا واضحاً بشكل خاص في مواجهة ماهيندا راجاباكسا، الرئيس السابق المعروف بمواقفه المناهضة للإمبريالية ودعمه لكوبا وفنزويلا والقضية الفلسطينية، وهو لا يزال موجوداً في البلاد، وتعتبره واشنطن مطلوباً ويجب القضاء عليه!.

يجب أن يضاف إلى ذلك الأسباب السياسية الأساسية، بما في ذلك الفساد المستشري للطبقة السياسية برمتها، والدور المخرّب لمنظمة “جي بي في” التي تعلن عن نفسها ماركسية لينينية، ويتمّ توجيهها وتمويلها من سفارة الولايات المتحدة والمساعدات الأمريكية.

أخيراً، يعدّ التكاثر الفوري للمنظمات غير الحكومية المدعومة من الحكومات الغربية، وما يُسمّى برنامج تمويل الديمقراطية ومؤسّسة سوروس، النشطة جداً في سريلانكا، جوانب أخرى لمشكلة سريلانكا. لذلك هناك كل المكونات التي سمحت ليس بالثورة والاستيلاء على الباستيل، ولكن بثورة مضادة، انقلاب على شكل ثورة ملونة، خاصةً وأن وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند كانت في مهمة في سريلانكا قبل بدء الأحداث.

إن حجة وسائل الإعلام الغربية بأن الصين مسؤولة عن مديونية سريلانكا هي كذبة صريحة، إذ يمثل هذا الدين أقل من 10٪، أما الـ90٪ المتبقية فهي ديون الدول الغربية ومؤسساتها المالية. من ناحية أخرى، وكما فعلت دائماً، ستستمر الصين، التي ساهمت بشكل كبير في تطوير البنية التحتية لسريلانكا، كإقامة الموانئ والمطارات والطرق، في توفير الدعم سياسياً واقتصادياً ومالياً لسريلانكا. ويمكن للأزمة أن تتفاقم فقط في حالة الفوضى التي تسمح للولايات المتحدة بتعزيز مصالحها الاستراتيجية في المنطقة حتى بشكل مؤقت في مواجهة تنامي نفوذ الصين. وفي هذا السياق، من المهمّ الإشارة إلى السياسة الهندية من خلال هذه الأحداث، وموقفها تجاه روسيا ودورها داخل دول البريكس. وينطبق الشيء نفسه بعد التغييرات في باكستان، مثل الضغط على بنغلادش الذي جعلها تستسلم لمصلحة دعم المواقف الأمريكية، ونيبال والتغييرات السياسية التي حدثت في أستراليا دون أن تغيّر هذه السياسة العدوانية لهذا البلد تجاه الصين.

كلّ هذه التطورات لا يمكن عزلها عن تلك المرتبطة بالأزمة الأوكرانية، ومناخ الخوف من روسيا، والتشوهات المعادية للصين التي يعيش فيها العالم اليوم.