اقتصادصحيفة البعث

الادخار في زمن الحصار.. صناديق الاستثمار المباشر الأنسب لاجتذاب المدخرات وتحقيق التنمية فلماذا لا ننشئها..؟

البعث- قسيم دحدل

تراجع قيمة الليرة، وحاجتنا للنقد وللعملة الصعبة، يدفعنا للسؤال عن وضع وواقع الحساب الجاري السوري؟، حيث يؤدي عجز الميزانية إلى انضغاط حاد للمدخرات المحلية الكاسدة بالفعل.

نسأل استناداً للنظرية القائلة: “إن الاقتصادات التي تعاني نقصاً في المدخرات يجب أن تستورد مدخرات فائضة حتى يتسنى لها الاستمرار في النمو، ثم تدير عجزاً ضخماً في الحساب الجاري من أجل اجتذاب رأس المال”.

بناءً عليه إذا ما كان واقع الحساب الجاري للدولة كواقع الحساب الجاري للمواطن، فهذا يعني أن هناك هبوطاً صافياً في معدل الادخار المحلي إلى الصفر، وهذا يجب ألا يكون صحيحاً وحقيقياً لادخار لدولة مثل دولتنا بشكل عام.

ولو رجعنا لنص النظرية آنف الذكر، والذي أثار لدينا -كإعلاميين وليس كاقتصاديين ولا كماليين مختصين- العديد من الأمور (ربما تكون غير دقيقة)، سنسأل عن وجوبية استيراد المدخرات كي يتسنى لنا تحقيق النمو الاقتصادي وبالتالي جذب الرأسمال الأجنبي: من أين نجتذب المدخرات، وكيف نجتذبها، وممن، ولأجل ماذا؟.

أساسي للتنمية

إن الادخار يعدّ أحد الجوانب الأساسية لعملية التنمية، ومن غير تكوين “الفوائض” لغرض الاستثمار لن تجد دول العالم -بشكل عام- سبيلاً للخلاص مـن مـستويات معيـشة منخفضة، فكيف هي الحال عندنا على الصعيد الوطني؟.

في واقع الحال، إن الاعتماد عـلى الموارد يزيد تعقيد مسألة قياس الجهود الادخارية، لأن معدلات نضوب الموارد الطبيعية لا تظهر بشكل واضح في الحسابات القومية القياسية، ويمكن لـ”صافي المدخرات المعدل” أو ما يوصف بالمدخرات الحقيقية، أن يقيسا المستوى الحقيقي للادخار في هذه الدولة أو تلك بعد اندثار رأس المال المنتج.

إذا ما…!

وما يلفت النظر أن الرأسمال الطبيعي يشكّل ربع إجمالي الثروة في الدول ذات الدخل المنخفض، وعليه فإن حصته من الثروة أكبر من حصة الرأسمال المنتج منها، ويدلّ هذا على أن توفير إدارة مثلى للموارد الطبيعية سيكون عاملاً رئيسياً لضمان ديمومة عملية التنمية، في الوقت الذي تعمل فيه هـذه الدول على تأسيس بناها التحتية وبناء رأس مالها البشري ورأس مالها المؤسّساتي، واللذين يعتبران الثروة الأكبر، ويمكن أن يكونا ويشكلا الادخار والمدخرات الأكبر.

إن الموارد الطبيعية تمثل سلعاً اقتصادية خاصة، لأنه لم يتمّ “إنتاجها” في الأصل، ونتيجة لذلك فإن هذه الموارد ستدرّ أرباحاً اقتصادية (ريوعـاً أو ريوعاً ادخارية) إذا ما تمـت إدارتها بالشكل السليم، ويمكن لهذه العائدات الريعية أن تصبح مصدراً مهماً لتمويل عملية التنمية.

كذلك فإن الاكتفاء بتحقيق حالة تهدئة في سعر الصرف، أمر غير ناجع بل يعتبر ضرباً من المسكنات، لذلك إذا ما أردنا على صعيد الاقتصاد الوطني دعم الإنتاج والاستثمار يجب ألا تكون مدخرات الأفراد (طبيعيين أو اعتباريين) ما بين سوق الأوراق والمصارف فقط، بل علينا حكومياً تفعيل دور مروّج الاستثمار بالعمل على طرح شركات مساهمة جديدة تُخصّص لإنشاء وإدارة مشروعات بنية أساسية أو إنتاجية، وفق معايير اقتصادية ويكون للحكومة فيها نسبة لا تزيد عن 10% لتتمكّن من الإشراف والرقابة، وحتى يثق الأفراد بهذه الشركات.

صناديق للاستثمار

كذلك من المناسب إنشاء صناديق استثمار مباشر تحت رعاية الحكومة، لتمويل مجموعة من الأنشطة الإنتاجية والخدمية، حتى تمتصّ أموال ومدخرات الأفراد والمؤسّسات، فمن دون هذا المسار ستظل المدخرات تبحث عن وضع أفضل لتحقيق عائد مناسب، ومن دون وجود هذه المشروعات سوف يتجدّد اتجاه هذه المدخرات للمضاربة.

ولعلّ آلية صناديق الاستثمار المباشر هي الأنسب لجمع أموال صغار المدخرين وحتى كبارهم، حيث يمكنهم شراء وثائق أو صكوك صناديق الاستثمار والاستفادة من عائدها، الذي يتوقع أن يكون أفضل من العوائد البنكية، وفي الوقت نفسه يساهم في زيادة إنتاج السلع والخدمات داخل البلاد، أي توظيف حقيقي وبفعالية عالية لكل جوانب الاقتصاد والنقد الوطني.

الجدير ذكره أنه وعلى الرغم من أن صناعة صناديق الاستثمار تمثل نوعاً ما صناعة قديمة -أكثر من قرن- إلاَّ أنها لا تزال تحظى بنسبة وبسرعة نمو كبيرة، وخاصة في الساحة المالية الحديثة، وأصبحت في صدر اهتمامات كلّ الساحات المالية.

مثال

في تونس (حيث عدد من نقاط الشبه الاقتصادي والمالي معها) مثلاً، والتي تعتبر ساحة جديدة وصغيرة بالنسبة للساحات العالمية وحتى العربية، فإن نسبة تطور الادخار في تلك الصناديق خلال العشرية قبل الماضية كانت بنحو 12% سنوياً، ويمثل مجمل الأموال المدخرة في نهاية 2009 نحو 3 مليارات دولار أي ما يقارب 7% من الناتج الداخلي الخام ونحو 33% من إجمالي الادخار الوطني، ويمكن القياس على هذا المثال بالنسبة للمجتمعات المشابهة وخاصة التي فيها طبقة وسطى مهمة ومعتبرة.

قناة لجذب الأموال

ولعلّ ما كشفت عنه وزارة المالية (ونرى أنها تأخرت كثيراً في طرحه..) حول سماحها بتداول سندات الخزينة في سوق دمشق للأوراق المالية، حيث سيتمّ طرحها بدءاً من المزاد القادم المزمع عقده بتاريخ 8-8-2022، وتمّ السماح لشركات الوساطة المالية بالاكتتاب في السوق الأولي بشكل مباشر بمزادات الخزينة، كما تمّ السماح للأفراد الطبيعيين والاعتباريين بالاكتتاب بمزادات سندات الخزينة عن طريق شركات الوساطة المالية وتداولها في السوق عن طريق شركات الوساطة، لعلّه قناة من قنوات جذب وتوظيف المدخرات المحلية والخارجية، حيث إن هذا الإجراء وبحسب أنس علي مدير الإيرادات العامة في الوزارة، له جملة من الإيجابيات في السياسة المالية والنقدية، فهو يوفر للوزارة قناة تمويل إضافية للإنفاق العام، وعند توجيه الإنفاق نحو الشق الاستثماري سيتمّ تحقيق زيادة في التشغيل والإنتاج والمزيد من العرض السلعي وبالتالي تحسّن الناتج المحلي الإجمالي. كما أوضح أن سندات الخزينة تسمح في السياسة النقدية بإدارة السيولة والمعروض النقدي وضبط هذا المعروض وتوجيه توظيفه بما يحول دون ذهاب جزء من هذا المعروض النقدي للمضاربة، أو أن يبقى عاطلاً عن التوظيف، وفي المحصلة يسهم ذلك في ضبط سعر الصرف، وخاصة مع السماح لحامل الورقة (السندات) ببيعها وتسييلها في السوق وعدم إلزامه الاحتفاظ بها لسنوات وبالتالي انخفاض المخاطر.

توضيح..

وبشكل عام فالسندات عبارة عن أوراق مالية ذات قيمة معينة، تلجأ لها الحكومات والشركات للحصول على السيولة المالية لتغطية مشاريعها المستقبلية مقابل عوائد ربحية تُدفع للمشتري على المدى الطويل. أي أوراق مالية يمتلكها التاجر أو غيره كوثيقة مقابل دين يمنحه لمن أصدر السندات (وغالباً دول وحكومات)، وذلك مقابل عوائد ربحية بمخاطرة مقبولة.

فمثلاً قد تحتاج حكومة إحدى الدول لتنفيذ مشروع كبنية تحتية أو خط سكة حديدية أو حتى بناء جامعة، ولكن لا تتوفر السيولة الكافية لذلك، أو يكون حجم المبالغ ضخماً، عندها تلجأ هذه الحكومة إلى إصدار سندات مالية وتقوم بطرحها في الأسواق بقيمة اسميه ثابتة تختلف عن قيمتها السوقية التي تعتمد على المضاربة في هذه الأسواق والتي تعتمد على حجم الطلب وموثوقية الاسترداد، وبذلك تحصل الحكومة على السيولة اللازمة لتنفيذ المشروع وتقوم بدفع العوائد المترتبة على هذه السندات لمالكيها من أرباح هذا المشروع.

حبذا لو…

لقد تعدّدت طرق التجارة الحديثة وظهرت أنواع جديدة من الأوراق المالية، فمنها قابلة للتحويل مثل الودائع البنكية وهي أوراق مالية لا يمكن المتاجرة بها أو بيعها من تاجر لآخر، ومنها أوراق مالية قابلة للتحويل مثل الأسهم، السندات وأذونات الخزينة، ولذلك يلجأ المضاربون إلى التجارة في السندات أو الصكوك لما لها من قابلية التحويل وعوائدها الربحية المجزية وضمان استرداد قيمتها.

هنا وفيما يخصّ الودائع حبذا لو تلتفت الحكومة والمالية لذلك، وتعلن عن إمكانية أن يقوم السوريون في المغترب، بإيداع مبلغ من العملة الأجنبية في المركزي السوري، وبإمكانهم سحبه حين زيارتهم لسورية مقابل قيامهم بصرفه في وطنهم (وهذا ما كان طرحه علينا عدد من المغتربين من باب دعم اقتصاد وطنهم، ودون أي مقابل أو فائدة على تلك الودائع)، كما أن هناك أموالاً “فائضة” لدى الأفراد والشركات والدول ترغب بتوظيفها واستثمارها ضمن شروط معينة، فلماذا لا نبادر ونتواصل ونحضّر ونعدّ تشريعياً ومالياً وإجرائياً لهذا الأمر، الذي يمكن أن يندرج في إطار جذب و”استيراد المدخرات”، سواء أكانت داخلية أم خارجية؟!.

Qassim1965@gmail.com