تضارب بالتصريحات وتباين بأرقام الإنتاج.. في مشهد غير مألوف منذ عقود.. نستورد القمح والشعير في ذروة الحصاد والتسويق..!
البعث الأسبوعية ـ علي عبود
لا يُمكن أن نحصد أكثر مما نزرع، وهذه المقولة تنطبق على جميع المحاصيل الزراعية، والأمر لا يتعلق بغرس البذور في باطن الأرض وتركها للطبيعة لتفعل فعلها إما مطراً أو جفافاً، وإنما بتأمين المستلزمات الكافية التي تتيح لبذور القمح والشعير الإنبات بظروف مثالية لتعطينا غلة وفيرة تغنينا عن الاستيراد، وهذا لم يحصل في الموسم الحالي، ولا في المواسم الماضية، فلماذا..؟!
لقد حصل ولا يزال يحصل العكس تماما ففي مشهد سيريالي غير مسبوق أعلنت المؤسسات الحكومية المعنية بتأمين أمننا الغذائي عن صفقات لاستيراد القمح والشعير في ذروة حصاد وتسويق محصول هذا الموسم، وكأنّها متأكدة مسبقاً أن إنتاجنا لا يزال أقل بكثير من احتياجاتنا السنوية بفعل عدم تأمين مستلزمات (الحصاد الوفير)..!.
الاستيراد مستمر..!
في ذروة حصاد وتسويق موسم حبوب 2022 بشّرنا مدير مؤسسة الحبوب أن (عقود الاستيراد مستمرة)، وهذه البشرى ‘‘الممقوتة’’ مرتبطة بتوقع مدير المؤسسة في بداية عمليات التسويق إن الكميات التي ستُشترى من المنتجين لن تتجاوز المليون طن، ونعترف أنه كان متفائلاً أكثر مما يجب، لأن وزير الزراعة أعلن بتاريخ 10/7/2022 أن الكميات المسوقة بلغت 513 ألف طن أي أكثر بقليل من عام القمح الأسوأ، ولن تزداد هذه الكميات كثيراً لأن الموسم في نهايته وقد تصل إلى حدود 600 ألف طن على الأكثر..!.
ولا نلوم مؤسسة الحبوب بانشغالها باستيراد القمح وتطمينها للسوريين (أن عقود استيراد القمح مستمرة وهي قيد التنفيذ مع الجهات المختصة، ولدينا عقود قيد التنفيذ مبرمة سابقاً وعقود قادمة إلى الموانئ السورية من دول صديقة وصلت إلى حدود 300 ألف طن تم تنفيذ وتوريد أكثر من نصفها لضمان عدم انقطاع تأمين القمح من الأسواق السورية).
الذي يقع عليه اللوم بل والمسؤولية هي الجهات المسؤولة عن تأمين مستلزمات إنتاج حاجة سورية من القمح والشعير، بدلاً من انشغالها برفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج كالمازوت لتبيعه لاحقاً بالقطارة بالسعر المدعوم وبسعر حر مقنن يزيد من تكلفة الإنتاج..!.
ولا ندري على ماذا استند رئيس اتحاد الفلاحين بتأكيده أن رفع أسعار شراء القمح سيشجع على زراعة القمح في الموسم القادم، أو يزيد من المساحة من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي خلال سنة أو سنتين..!
وأصبح روتينيا..!
لم نفاجأ بوصف مؤسسة الحبوب لعمليات استيراد القمح بالروتيني، فهي بالتعاون مع قلة من “المتنفذين” من جهة، وبتراجع التسويق إلى ما دون المليون طن سنوياً من جهة أخرى، نجحت بتحويل الاستيراد إلى إجراء روتيني لا تعترضه أية صعوبات في التوريد أو التمويل..!
وضمن هذا السياق أعلنت مؤسسة الحبوب بتاريخ 22/5/2022 أنها (تستجر روتينياً عبر البواخر دونما أية إشكالية في الرصيد الحالي للأقماح والذي سيعزز مخزونه الاستراتيجي لأشهر قادمة الموسم الحالي والمقدر بشراء حتى مليون طن).
كما أعلنت المؤسسة العامة للأعلاف من جهتها بتاريخ 4/7/ 2022 عن رغبتها بالتعاقد بالتراضي لتوريد كمية 40 ألف طن من مادة الشعير وفقاً لأحكام القانون رقم 51 لعام 2004، فهل هذا الإعلان بمثابة دليل على أن الكميات المسوقة من الشعير كانت دون التوقعات كما كان حالها في المواسم السابقة..؟!
المثال السيئ من حماة
وبما أن حماة هي المحافظة الأولى حالياً بإنتاج القمح فقد كانت مثالاً نموذجياً لتقصير الجهات الحكومية بتأمين مستلزمات إنتاجها المقدر بـ 300 ألف طن، وخاصة المياه التي تعتبر العنصر الحاسم بزيادة أو تراجع الإنتاج.
والسؤال المكرر: ما جدوى شراء كيلو غرام القمح بـ 2000 ليرة إذا كانت مستلزمات الإنتاج مرتفعة كالمازوت والسماد وأجور الحراثة والحصاد والنقل..الخ..؟.
وبفعل نقص المستلزمات لم تتجاوز الكميات المسوقة في حماة 130 ألف طن حتى 4/7/2022 أي بنسبة 43% فقط معظمها من سهل الغاب، وهذا الأمر متوقع لأن المحصول تعرض لعطش شديد رغم توفر المياه القريبة جداً منه لأن ضخها إلى المساحات المزروعة بالقمح المروي يحتاج إلى قرار، والقرار إلى اجتماعات تنسيقية بين الجهات الحكومية المعنية، والتي لم تجتمع لتصدر القرار بري القمح، لتكون النتيجة: إنتاج قليل، والباقي علف للماشية..!
لقد أجمع فلاحو حماة على أن إنتاجهم من القمح هذا العام كان بمثابة الكارثة حيث لم يعط حاجته إلى المياه في شهري آذار ونيسان فتم حصاده قشاً أو تضمينه علفاً للأغنام..!
ماذا نفهم من تصريح وزير الزراعة..؟
لقد كشف وزير الزراعة محمد حسان قطنا بتاريخ 9/7/2022 أن إنتاج سورية من القمح هذا العام بلغ 1.7 مليون طن، مشيراً إلى أن ذلك الكم من الإنتاج جاء أقل من المتوقع بسبب الظروف المناخية الاستثنائية.
وفي اليوم التالي 10/7/2022 كشف أن الكميات المسوقة من القمح بلغت 515 ألف طن مشيراً إلى أن ذلك الكم من الإنتاج جاء أقل من المتوقع بسبب الظروف المناخية الاستثنائية..!
حسنا، لنفترض أن الكميات المسوقة ستصل إلى 600 ألف طن هذا العام، فهذا يعني وجود كمية 1.1 مليون طن خارج مستودعات مؤسسة الحبوب.. فأين هي..؟
حسب الإجراءات الصارمة ممنوع نقل القمح من قرية إلى أخرى، وتُصادر أية كمية حتى لو كانت قليلة ومخصصة لجرشها أي لتحويلها إلى برغل أو طحنها لاستخدمها في صناعة الخبز في الريف السوري، وبالتالي أين هي الـ 1.1 مليون طن قمح..؟
هل مازالت في منازل المنتجين..أم استقرت في مستودعات تجار القمح، أم تم تهريب بعضها أو معظمها إلى دول الجوار وتحديداً تركيا والعراق..؟
ويمكن أن نفهم من تصريح وزير الزراعة إن الفلاح باع الجزء الأكبر من محصوله لمن دفع سعراً أعلى من سعر الحكومة، وهو اعتراف ضمني بأن الحكومة لو اشترت القمح بسعر أعلى من سعره العالمي وبما يزيد عن تكلفة إنتاجه لتمكنت من استلام كامل محصول القمح أي الـ 1.7 مليون طن..!.
وإذا تناولنا المسألة من منظور اقتصادي فإن السؤال: أيهما أجدى بل وأربح للحكومة أن تشتري الـ 1.1 مليون طن بالليرة السورية أم تستوردها بالقطع الأجنبي..!
في حال كنا متفائلين جداً واقتنعنا أن الـ 1.1 مليون طن سيستخدمها السوريون سواء كانت في منازلهم أم في مستودعات التجار فهذا يعني إن إنتاجنا هذا العام من القمح يغطي نسبة 53% من حاجتنا البالغة 3.2 مليون طن سنوياً حسب قول وزير الزراعة، وبالتالي فإن مستورداتنا لتغطية الفرق في موسم 2022 ستكون 1.5 مليون طن وليس 2.6 مليون طن..!
وسواء كانت استنتاجاتنا دقيقة أم خطأ بخطأ فهي لا تلغي الحقيقة الساطعة: عمليات استيراد القمح والشعير مستمرة حتى في ذروة الحصاد والتسويق..!
لنترك الطبيعة جانباً
إن إلقاء المسؤولية على الظروف المناخية الاستثنائية لتبرير تراجع الإنتاج غير مجد ولا مقنع، فهذه الظروف على حالها منذ تسعينات القرن الماضي، والفارق إننا في العقود الماضية استثمرنا مواردنا المائية لإنتاج ما يكفينا من سلع إستراتيجية وأساسية، في حين لم تكترث أي جهة بتأمين الريات للأراضي المزروعة بالقمح المروي خلال السنوات الماضية، كما حصل في سهل الغاب هذا الموسم..!
فلتترك الجهات الحكومية الطبيعة جانباً، ولتُجبنا على السؤال: ما جدوى مياه السدود وشبكات الري إن لم تروي مياهها الأراضي العطشى..؟
إن كانت السدود وشبكات الري تحتاج لأعمال تعزيل وصيانة، فلماذا التأخير بل التقصير بتجهيزها..؟
وإذا كانت مساحات من القمح والشعير تحتاج إلى شبكات جديدة لريها فلماذا لا يرصد لها الإعتمادات المالية اللازمة لإقامتها خلال القادم من السنوات بدلاً من التركيز الوحيد والأوحد على الاستيراد..؟
أكثر من ذلك لماذا لا تقام بحيرات اصطناعية لتجميع مياه الأمطار لاستخدامها لاحقاً في الري أو الاستخدامات الأخرى..!
نعم، الجفاف وقلة الأمطار أمر واقع، لكن لنستفد أولاً من كل قطرة تهطل بدلاً من النواح على الطبيعة التي لم ولن ترحم أي مقصر تجاه التصدي لآثارها القاتلة..!