مجلة البعث الأسبوعية

“الحكيم” سينما “ما بعد الحرب” بين العاطفة والحرفة

تمام بركات

بدايتان للتعرف على شخصية “الحكيم” في فيلم “الحكيم” -ديانا جبور، باسل الخطيب-، والذي جرى عرضه الافتتاحي الخاص، في دار الأوبرا مؤخراً؛ الأولى وهو يقدم العلاج لولد مريض في بيته، والثانية عندما تعطلت سيارته التي عبرت للتو على طريق ترابي، بين مناظر طبيعية خلابة، قبل أن تنزل عجلتها في حفرة وتتوقف الرحلة بعد نزولها، ثم يخرج من العدم، وفي منطقة جبلية وعرة، “تركتور” عليه مجموعة أشخاص يزفون عرساً على ظهر التركتور، من بينهم سيدة حامل، لا يوافق زوجها، سائق “التركتور” أن تنزل للمساعدة في رفع السيارة، كونها حامل ووضعها حساس، أما “الجور” والمطبات التي كانت تتطاير فوقها منذ برهة، فلا مشكلة لديه معها! وهنا نتعرف على شخصية الحكيم مرة أخرى، من خلال السائق الذي كان صبياً شقياً، وكان الحكيم يعالجه من آثار “شقونته”، يرفع الشباب السيارة ويحررون العجلة، ثم يتابع الحكيم نزهته.

الرمزية وإن كانت هي البطلة هنا، وفي بقية الفيلم أيضاً، والدّالة أيضاً على طبيعة الشخصية في الفيلم، إلا أنها كثيفة للدرجة التي جعلت الربط الرمزي شبه مفكك، ويُظهر البداية مكررة في غير قالب، حتى الرمزية التي يتضمن عليها، مشهد تحرير العجلة، تلاشت تحت ضغط المناخ الرمزي العام المهيمن؛ تجري الأمور هكذا حسب النص: طبيب عجوز، يقدم العلاج لفتى مريض، يزوره في بيته –عمل نبيل- أثناء عودته تكافئه الطبيعة بأجمل المناظر التي يعبر بينها، ثم تظهر عثرة ليس من السهل عليه حلها، تعطله، قبل أن يأتي الفرج، الذي كان سبباً في صناعته، وهذا هو حال الحكيم في الفيلم، طبيب عجوز يقدم خدمات جليلة لمن حوله، وأحياناً يقع في مصيبة، ثم وبالتعاون مع الناس الذين ساعدهم، يخرج منها.

ربما لو تم الاكتفاء بالبداية الثانية، لكان ذلك في صالح الشخصية أكثر، فأن نتعرف عليه–كجمهور أقصد-، من خلال الناس الذين عالجهم، يناسب الشخصية وسلوكها العام في الفيلم، والحياة كما يفترض، أكثر من أن تعرفنا هي على نفسها.

هذه التثنية في بداية الفيلم، تابعت في متنه، فالشخصية الرئيسة، تناوب عليها كل من الحكيم وحفيدته! الشابة التي تدرس الفنون في الجامعة، والتي تزوره في العطل وتقضيها معه، فعدا عن كونهما جد وحفيدة، هما أيضاً شركاء في الحزن والفقد، هي فقدت أمها، التي تكون ابنته، وهو لم يستطع اعتياد فقده ابنته، التي تكون أمها، ثم أن لها وضعاً أيضاً، يزيد من فاعلية بطولتها، فهي ابنة لشهيدين، قضيا في الحرب.

نرى الحفيدة، في بقية المشاهد، ترافق جدها إلى عمله، بل إنها تقوم بمعجزة، عندما تشفي مريضة دخلت في حالة سبات منذ مدة طويلة، بعد أن فقدت ابنتها وهي تحملها لتحميها من الشظايا، بعد تفجير إرهابي، طال مدرستها، والشظية التي كان من المفروض أن تصيب الأم، أصابت الفتاة، التي حمت أمها بجسدها الصغير، من الموت، معجزة الحفيدة أدت دورها ليا مباردي، تجلت في مسكها “الرق” وضربها عليه بأصابعها، مصدرة الصوت الذي أيقظ المرأة من سباتها، ثم قدرتها على بث الحياة في أي مكان تكون فيه، وتحريك مشاعر شاب من أصحاب الحاجات الخاصة، وتعليمه الرسم، وعندما خُطفت في تصعيد درامي هو الأهم، لم تُخطف للضغط على الحكيم، أو لابتزازه مادياً، بل خطفت لأنها جميلة وعذراء، والشاب الذي تحبه، هو من اكتشف أنها خُطفت، عندما وجد جوالها الذي كان يصور دون قصد عملية الخطف، وأخبر الناس والشرطة، وتم إنقاذها، أما الجد، فكان يقوم بأفعال يائسة بلا حكمة، للبحث عنها، مثل أن يخرج باكراً لينادي عليها من على أطراف الغابة، ورغم أن الشكوك ساورته في هوية الفاعل، إلا أنه لم يفعل أي شيء منطقي للتأكد من شكوكه، كأن يبحث في كراج أو بيت الفاعل، حيث وضعها الخاطف، وهنا سنراه بموقف أبوي فيه الكثير من العاطفة الصادقة، يتكلم إلى الشاب الذي خطف الفتاة، وهو يخبره أن أباه كان رفيقه، الذي رفض أن يأخذ من الحكيم، أجرة إصلاح سيارته العتيقة “لانسر” مراراً وتكراراً، وهذا أقل ما يقدمه، للرجل الذي له أفضال على المنطقة كلها، ولسيارته بطبيعة الحال، لأنها ساعدته في تحقيق ذلك.

العلاقة العاطفية والإنسانية الراقية التي جمعت بين ديانا وباسل في الحياة، ظهرت بشكل كبير وواضح في الفيلم، الذي كان الشحن العاطفي فيه، مستمراً وبلا توقف، طوال مدة الفيلم الروائي الطويل، وهي مهمة شاقة تناوب عليها السيناريو والإخراج بشكل مكثف، وتولت بقية عناصر السينوغرافيا، مهمة جعلها طازجة في كل مشهد تقريباً، لكنها لم تنجح في تحقيق ذلك على أكمل وجه.

في السيناريو، جاءت الحوارات بمعظمها، عاطفية، وهي منسجمة هنا وحالة الشخصية، فالحكيم هنا ليس طبيباً فقط، بل هو أيضاً صاحب حكمة في الحياة، وحكمة الحكيم هنا، تركزت بمعظمها في كون الحكيم لا يعامل الناس إلا بنواياه الطيبة، حتى أولئك الذين يحاولون أذيته، جاعلاً رسالته السلام والصفح والمنح دون انتظار مقابل، وهذا أصاب الفيلم بالرتابة، لفرط مثالية البطل! كما أنه أثر على الحبكة، التي لم تجد صراعاً يدفعها للعقدة فالحل، بشكل متماسك ومنسجم مع طبيعة الصراع الدرامي.

في الإخراج، تولت كل من العين الذهبية لباسل الخطيب، أشهر المخرجين العرب، في “السينما الشعرية” وتنفيذ التصوير، بإدارة ناصر ركا، تطعيم المشاهد بحالة شعرية بصرياً، في محاولة لترميم فراغات الورق، مشاهد طبيعية مدهشة، جمال الأمكنة لا يوصف هنا بل يُرى، ديكور له طابع حميمي، مع أزياء عصرية، بألوان هادئة، وهذا الأسلوب هو من العلامات الخاصة بمشروع الخطيب السينمائي بمعظمه، حتى التلفزيوني أيضاً.

هكذا انسحبت الحالة العاطفية الكثيفة، على بقية الفيلم، بل هيمنت، خصوصاً وأن شخصية “الحكيم” يؤديها الفنان الكبير دريد لحام، ومن المدهش فعلاً رؤية هذا الفنان وهو يؤدي الأدوار العاطفية ذات المنحى التراجيدي، من الممتع للمتفرج، أن يرى تلك التحولات العميقة، التي يبديها وجهه، صوته، بمرونة عالية، وخفة مدهشة، فزاد الشحن العاطفي أضعافاً مضاعفة، وهذا أرهق الأحداث، وعطل وظيفة “التشويق”، التي تراجعت هنا، ففيها عناد للحالة العاطفية العامة، وتم الاستعاضة عنها، بالمزيد من العاطفة.

ظهور الفنان الراحل محمد قنوع في الفيلم، زاد من جرعة الشحن العاطفي، وتحول حضوره السينمائي، إلى حضور مسرحي حي، بعد أن تلقى كممثل، ردود فعل الجمهور مباشرة حال ظهوره، ورغم أنه يؤدي شخصية شريرة، إلا أنه فاز بقلوب الجميع دون استثناء، خصوصاً بعد ما أورده المخرج، من حديث دار بينهما مراراً بعد تصوير الفيلم، وتكرار سؤال الفنان محمد قنوع، الذي رحل منذ مدة قريبة، عن موعد العرض، فهو متلهف ليرى كيف ظهر كممثل في السينما للمرة الأولى، ولا بد أن نخبره، بأنه ظهر مبدعاً، بارعاً، في الأداء الكبير الذي قدمه، للمرة الأولى والأخيرة في السينما.

المشاهد التي تجمع بين الفنانة الكبيرة، الجميلة دائماً، صباح الجزائري، وبين الفنان دريد لحام، تعيد للذهن تلك المشاهد التي جمعتهما شابين، قبل أكثر من نصف قرن، يا لها من ألفة أكثر من عاطفية، يشيعها أداؤهما معاً، في لحظة تظهر شخصية صباح الشابة العذبة، وهي بكامل ألقها، في بضعة كلمات تقولها، وهي تدخن سيجارة، قبل أن تعود الشخصية التي تؤديها في الفيلم.

زمن الفيلم كان طويلاً قياساً بالأحداث، التي خلت من التشويق كما أسلفنا، فصار الزمن عبئاً على الأحداث وعلى الشخصيات أيضاً، إلا أن الحالة العاطفية الهائلة، التي يشيعها الفيلم، والرسائل النبيلة التي يتضمن عليها، والشكل البصري النظيف، بمسحة شاعرية، ذات بعد سحري أيضاً، هذا وغيره، يجعل من فيلم الحكيم، رائداً لمرحلة “سينما ما بعد الحرب”، والتي يبدو أنها ستعيد للـ: “الرمزية الواقعية” ألقها وللشعرية السينمائية، حضورها الأبرز.