مجلة البعث الأسبوعية

من دون تعريف موحّد.. وجهات نظر متباينة حول ماهية المعرفة ومتفقة حول أهميتها 

البعث الأسبوعية- نجوى صليبه

منذ البداية ينوّه المترجم مصطفى ناصر بأنه والقرّاء لن يعدّوا أنفسهم طلّاب فلسفة حين يقرؤون كتاب “ما المعرفة”، يقول: هو بعيد عن الخوض في متاهاتها، وإنّما هي محاولة لابدّ من أن نقدم عليها إذا أردنا أن نعرف: ما المعرفة؟ مضيفاً: في واقع الأمر تعدّ نظرية المعرفة من المسائل الفكرية المعقدة التي تتسم كثيراً بالتّجريد، وهي فعلاً كذلك وربّما كان هذا هو السّبب في العزوف عن التّفكير فيها في المقام الأوّل.

ومنذ البداية، يبيّن مؤّلف الكتاب دنكان بريتشارد أنّ تقييم وجهات النّظر المتباينة عن المعرفة من شأنها أن تلقي الضّوء في ذاتها على ماهية المعرفة، وإن لم يتمخّض عن ذلك تعريف موحّد ومتفّق عليه لهذا المفهوم”، لكنّه في الوقت نفسه يقول بضرورة أن يفكّر المرء بكلّ الأشياء التي يعرفها حالياً، أو على الأقلّ تلك التي يتصوّر أنّه يعرفها، مفرّقاً بين نمطين للمعرفة، الأوّل: المعرفة الافتراضي ويقصد بالافتراض ما تخبرنا به جملةٌ معينةٌ وتؤكّد أو تثبت أنّه شيء موجود ومتحقق في الواقع، وأمّا الثّاني فهو “معرفة قدرة” أي الطّريقة التي تمارس بها فعّالية أو نشاط معين، كما يتطرّق إلى متطلبات أساسية للمعرفة ويحددها بالحقيقة والاعتقاد، ويقول في الأوّل: حين ننسب المعرفة إلى شخص ما فذلك يعني أن نعدّه حائزاً موهبة إدراك الأشياء على نحو صحيح، وهذا ذاته يشكّل إنجازاً ممّا يعني أيضاً أنّنا نؤمن بأنّ الشّيء الذي يعرفه ذلك الشّخص ينبغي ألّا يكون زائفاً بل شيء حقيقي”، ويقول في الثّاني: إذا فكّرت في هذه التّصورات فسوف يتّضح أنّ المقارنة بين الاعتقاد والمعرفة تستخدم هنا ببساطة للتّأكيد على حقيقة أنّ المرء لا يعتقد بالافتراض المطروح للنّقاش فقط، بل هو يعرفه أيضاً.. في هذه الحال من شأن هذه التّأكيدات في الواقع أن تدعم القول إنّ المعرفة تتطلب الاعتقاد لا إنّها تبطل أهميته.. سوف نخمّن مدى أهمية مطلب الاعتقاد بالنّسبة إلى المعرفة بأن نتخيّل للحظة عدم وجوده، هذا يعني أنّه ربّما كانت لدى المرء معرفة بشأن افتراضي معيّن على الرّغم من عدم اعتقاده في ذلك الافتراض مطلقاً.

“لماذا نعطي المعرفة قيمةً أكبر من مجرّد اعتقاد حقيقي؟” سؤال يبدأ فيه بريتشارد الفصل الثّاني من كتابه وينهيه بالقول: يتمثّل أحد الاهتمامات الأساسية للإبستمولوجيا في تقديم تفسير قيمة المعرفة، لكن في الوقت الذي يبدو فيه أنّنا نولي قيمة المعرفة فإنّ الأسباب التي تدفعنا إلى ذلك ليست واضحةً تماماً، كذلك لا تبدو طبيعة هذه القيمة واضحة، ومن الوسائل التي يمكن أن تتبع في تفسير هذه القيمة أن يلاحظ المرء أنّه كان يعرف افتراضاً معيناً، فذلك يعني أنّ لديه اعتقاداً حقيقياً بذلك الافتراض، وتكون للاعتقادات الحقيقية فائدة لا يمكن التّغاضي عنها، ولهذا فهي ذات قيمة.. للاعتقاد الحقيقي تحديداً قيمة فعّالة إذ يتيح السّبيل لتحقيق أهدافك، موضّحاً: إحدى المشكلات التي تواجه هذا الافتراض هي أنّه لا يبدو واضحاً ما إذا كانت “كلّ” الاعتقادات الحقيقية ذات قيمة فعّالة.. إنّنا نرى من ناحية أنّ بعض الاعتقادات الحقيقية ترتبط بأمور تافهة بحيث يبدو أنّ تلك الاعتقادات لا قيمة لها، ومن ناحية أخرى من المفيد للمرء أحياناً لو كان لديه اعتقاد زائف، فهذا أفضل ممّا لو كان لديه اعتقاد حقيقي..

يقسّم المؤلّف كتابه إلى أربع عشرة فصلاً وفي كلّ منها يتناول موضوعاً من مواضيع المعرفة وعناصرها ومكوّناتها وارتباطاتها ومشكلات تلك المواضيع أو الطّروحات، مثلاً نقرأ في الفصل الخامس عن علاقة المعرفة بالعقلانية والتّبرير، ويتطرّق فيه إلى سؤال مهم بالنّسبة للإبستمولوجيين يتعلّق بالأسلوب الذي يتمكنون به من توضيح نقاط الاختلاف بين الموقف العقلاني والموقف غير العقلاني، يقول: تتمثّل أهمية هذا السّؤال بالنّسبة إلى الذين يتصدّون لمحاولة منع وضع نظريات للمعرفة في أنّه يبدو من البدهي أن تعدّ الاعتقادات العقلانية مرشحة أكثر من غيرها لأن تنتمي إلى ميدان المعرفة، أمّا الاعتقادات غير العقلانية فهي بطبيعتها لا تعدّ أمثلةً عن المعرفة، مركّزاً على العقلانية المعرفية باعتبارها النّمط من العقلانية فقط هو الذي له أهمية قدر تعلّق الأمر بنظرية المعرفة، ويضيف: ببساطة إنّ العقلانية المعرفية هي نوع من العقلانية التي تركّز على الهدف من الاعتقاد الحقيقي.. العقلانية المعرفية التي نناقشها هنا تسمّى بـ”العقلانية المعرفية الأخلاقية” ويتضمّن هذا النّوع من العقلانية القول بإنّ اعتقاد الشّخص المعني يكون عقلانياً من النّاحية المعرفية ما دام لا ينتهك أي معيار معرفي مقرر سلفاً في أثناء التّوصّل إلى ذلك الاعتقاد من وجهة نظر ذلك الشّخص.

وفي الفصل السّادس، يقدّم المؤلّف بعض المهارات والقدرات التي يجب على المرء التمتّع بها من أجل الحصول على المعرفة ولعلّه يختصرها بقوله: “إنّ القدرات التي يتمتّع بها الإنسان، مثل النّظر هي قدرات إدراكية وحين تعمل بالصّورة المناسبة وفي البيئة التي تناسبها على الأقل فهي تتيح له الوثوق فيها لاكتساب اعتقادات حقيقة عن العالم الذي حوله”، ويكمل فكرته في الفصل السّابع فنقرأ: تتمثّل المشكلة المهمة التي تواجه تجربتنا غير المباشرة في أنّنا حين نجعل معرفتنا عن العالم التي نكسبها عن طريق الإدراك الحسّي تستند إلى عملية استدلالية فذلك يهدد بعزلتنا كلّياً عن العالم”..

“الشّهادة والذّاكرة” عنوان الفصل الثّامن والذي يخصصه المؤلّف للحديث عن أمرٍ  مهم، ألا وهو مشكلة المعرفة التي تستمدّ من شهادة الآخرين، يوضّح: إنّها لا تعني فقط النّقل اللفظي الشّكلي للمعلومات التي نراها تحدث في مكان ما، بل تشمل النّقل عن قصد لأي معلومة عموماً سواء بطريقةٍ لفظية أو عبر الكتب والصّور وتسجيلات الفيديو، هناك مقدار كبير من الأشياء التي تتعلمها عن طريق شهادة الآخرين وليس باكتشاف الحقائق المطروحة بنفسك، منوهاً بضرورة الحذر من الشهادة المزيّفة، ومبيناً أنّ بعضها لن يكون مثيراً للقلق في حال وجود وسائل تحقق ومقارنة، مضيفاً: مثلما نعتمد على الشّهادة في عدد كبير من اعتقاداتنا التي نتوصّل إليها، فنحن أيضاً نعتمد على الذّاكرة، ومثلما يبدو أنّه ليس هناك من سبب واضح يدعو إلى اعتبار الشّهادة بالضّرورة تستحق الوثوق فيها، كذلك الأمر بالنّسبة للذّاكرة.

اللافت في هذا الكتاب هو تدعيم النّظريات والأفكار بأمثلة وحوادث قد يتعرّض لها أي شخص من دون التّفكير فيها لماذا حصلت وكيف وغيرها من الأسئلة، كما نراه يقدّم مختصراً مفيداً عن بعض الأفلام التي تناولت فكرةً من الأفكار التي تطرحها نظريات المعرفة، ففي الفصل الثّاني عشر وتحت عنوان: “الشّكوكية بشأن عقول أخرى” يضرب مثلاً فيلم “غزو مختطفي الأجساد” المُنتج في عام 1956، ويشرح: كانت الفرضية الأساسية التي يستند إليها الفيلم هي أنّه يجري استبدال النّاس على نحو هادئ بكائنات غريبة مستنسخة عنهم.. هذه الكائنات الغريبة كانت تتصرف في كثير من الأحيان ـ وليس دائماًـ تماماً مثل النّاس الذين حلّت محلهم، وهذا ما يجعل تمييز الكائنات الغريبة عن النّاس الحقيقيين أمراً صعباً على المرء.. هذا يطرح تساؤلاً جوهرياً له علاقة بالفصل حول كيفية التّأكّد من أنّ الآخرين لديهم عقول مثلما نتصوّر تحديداً؟.

ينهي بريتشارد كلّ فصل من فصول الكتاب بملخّص بسيط وتركيز على أكثر الأفكار أهمية مع حرصه على ذكر مراجعه في كلّ منها، ويخصص في نهاية الكتاب قسماً يضمّنه أسماء مراجع وكتب منهجية تناقش نظرية المعرفة من ضمنها كتب ألّفها سابقاً، وقسماً آخر خاص بشرح مبسّط ومختصر لبعض المصطلحات المذكورة في كتابه الذي يختمه بالقول: نحن نهتمّ بالمعرفة لأنّها ذات أهمية جوهرية للحياة التي تتضمّن قيمة تجعلها تستحق أن يعيشها الإنسان، ربّما كانت مسائل الإبستمولوجيا ذات طابع تجريدي، بيد أنّ أهميتها لحياتنا مسألة حيوية بكلّ تأكيد”.

يذكر أنّ الكتاب طُبع ضمن “سلسلة كتب ثقافية شهريةـ 2013” التي يصدرها المجلس الوطني للثّقافة والفنون والآداب في الكويت، وبعدد نسخ لافت بلغ الثّلاثة والأربعين ألفاً.