من مدريد إلى طهران مروراً بجدّة حرب “القمم”.. وموقع سورية منها
البعث الأسبوعية – أحمد حسن:
ربما كان بعض ما يمنعنا، في المنطقة والعالم، من تكوين فهم أقرب للصحة عمّا يحصل على المستوى العالمي، وبالتالي انعكاساته الحتميّة علينا، هو استمرارنا في مراقبته بالمنظار السابق ذاته ومقاربته عبر الوسائل القديمة ذاتها، بينما العالم ذاته يتغيّر -سياسياً واقتصادياً.. وجغرافياً- عمّا عهدناه من قبل، فهذا عالم مختلف، عالم لم نعتَد عليه بعدُ، وإذا كانت حرب أوكرانيا تبدو اللحظة التي أظهرت التغيير ووضعته على شاشات “التلفزة”، فإن يوم “الثلاثاء السوري” منذ أكثر من عقد تقريباً، حين اتخذت روسيا والصين أول فيتو مزدوج في مجلس الأمن الدولي، كان اللحظة المؤسسة -التي لا يجوز تجاهلها- في بناء ما هو حاصل وقادم أيضاً.
قمم الغرب..
وربما كانت “القمم” العالمية المتلاحقة خلال فترة قصيرة لا تتعدّى الشهر الواحد هي أهم دلائل هذا التغيير، سواء بمضمونها أم بشكلها، فالملاحظ أن هذه “القمم” -وتحديداً الغربية منها- التي جمعت دولاً وأحلافاً عدّة بهدف مواجهة ما هو قادم، كرّرت، بأغلبها، ما كان سائداً ومعروفاً سابقاً، ورغم بعض “العنتريات” التي صدرت عنها، إلا أن اللافت في الأمر أن أيّاً منها لم يكن مفصليّاً في هذه المعركة، بل يمكن القول بكل ثقة إنها، بمجملها، استعرضت من “القوة” أكثر مما تستطيع تنفيذه على أرض الواقع، ، بل ربما كانت، ولأول مرة، تعبيراً عن “خوف” كامن أكثر مما هي تعبير عن “قوة” ظاهرة وواثقة، وبالتالي كشفت، وإن من دون تعمّد، عن حقيقة أصبحت تترسّخ يوماً إثر آخر، أو قمّة إثر أخرى، ويمكن اختصارها بجملة واحدة: لقد انتهى العالم الأحادي القطب، ويولد الآن عالم جديد.
هنا يمكن القول، مع بعض التجاوز: إن الصور القادمة من هذه “القمم” المتتالية، وهي موجّهة بمجملها ضد روسيا والصين، وإيران أيضاً، تبدو في جانب كبير منها مألوفة لنا نحن العرب، مجرّد قمم شجب وتأييد، فبينما تتقدّم روسيا في أوكرانيا، وبالتالي في أوروبا، وإن ببطء، وتزعزع الجغرافيا والاقتصاد، وتعلن الصين عن استعدادها لاستخدام القوة في حال “اللعب” بأمنها القومي، وتبدأ في الآن ذاته خطوة جديّة لتهميش الدولار الأمريكي أي زعزعة الركن الاقتصادي لـ”الإمبراطورية”، يحطّ بايدن في القدس ليعلن ما هو معروف، وينتقل إلى “جدة” ليعطي أكثر مما يأخذ، وذلك أمر لم تشهده روما العصور الجديدة سابقاً.
والحق، أن الأسباب التي أدّت إلى ذلك عديدة، لكنها جميعاً تتشارك في إظهار أن العالم الذي “كفر” في القرن التاسع عشر بالمقولة البريطانية: “إن ما هو جيد لها جيد للعالم”، يعلن اليوم، أو يكاد، “كفره” بوراثة أمريكا، الطويلة، لهذه المقولة من جملة ما ورثته من أملاك الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس، لكن دون أن يمنح، حتى الآن، حق “الوراثة” لأي دولة أخرى.
وبتدقيق بسيط يمكن لأيٍّ كان رؤية أن هذه “القمم” لم تنتج تحالفاتٍ حديدية، بمعنى أن التحالفات فيما بين أطرافها ليست ثابتة بل تبدو كأنها تحالفات “رجراجة وعلى القطعة” كما يقال، وإذا كانت الحرب الأوكرانية قد فرضت، حتى الآن، نوعاً من الوحدة الغربية والانضباط خلف القائد الأمريكي، فإن الزمن، والمصالح الاقتصادية، كفيلان بإظهار أنه انضباط شكلي لا أكثر، فوجود تركيا مثلاً في “قمم” الناتو وتوابعه وفي قمة طهران بالأمس كما وجود العراق في قمة جدّة دليل على ذلك، لكن الأخطر من ذلك أن بعض الدول “الفاعلة” التي شاركت في قمم واشنطن وأيّدت كل “إعلاناتها” لا، ولن، تستطيع الالتزام الكامل بها في ظل حقيقة تشبيك بعضها المفصلي مع “العدو” الصيني وحاجتها الماسة لـ”العدو” الروسي، وعدم قدرتها فعلياً على مواجهة “العدو” الإيراني، بل إن بعضها، كبعض دول الخليج، وأوروبا أيضاً، يتخوّف جديّاً من “تخلّ” أمريكي عنهم بعودة ترامب أو نهجه، وهو نهج يعبّر عن تيار قوي وفاعل في أمريكا، وربما كان أبرز ممثل لهذا الفريق ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وإن بصوت خافت، “عندما ينتهي كل هذا، وأيّاً كان الرئيس في أمريكا، ستظل روسيا وانشغالاتها ومخاوفها ومصالحها وأساطيرها كما كانت في الماضي بالنسبة لأوروبا”.
.. وقمة طهران
الكلام ذاته ينطبق على قمّة طهران، فالمصالح بين أطرافها ليست متطابقة تماماً كحلف حديدي، ويكفي أن نرى الترسانة التركية من مسيّرات “بيرقدار” وهي تواجه في أوكرانيا القوات الروسية، بينما تقف طهران وموسكو في مواجهة الأطماع الأردوغانية في سورية لتأكيد ذلك.
العقبة التركية!
وإذا كان “التقارب بين روسيا وإيران أمراً حتمياً وليس تكتيكياً، وهو استراتيجي بطبيعته وسيكون له تأثير كبير في جدول الأعمال الإقليمي، بما في ذلك منطقة القوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط”، كما قال محلّل سياسي روسي، وذلك بسبب معاناتهما المشتركة من عقوبات الغرب وحصاره، فإن وجود تركيا الأردوغانية -وهو عطب مؤسس في هذه القمة- بأطماعها وزئبقيتها المعروفة، يبدو كـ”حصان طروادة” الذي يجب الانتباه منه ومعالجته بالدواء المناسب، لأنه، أي أردوغان، وبعد أن فشل في الحصول من قمم الغرب على ما يريده بالكامل، يحاول اليوم عبر ظهوره في طهران أن يحصل على مكتسبات محدّدة يريدها، كما كل شيء آخر، دعماً له في الانتخابات الرئاسية في تركيا العام المقبل.
بيد أن ذلك لا يلغي حقيقة محاولة طهران وموسكو بناء توازن عالمي جديد، كما لا يلغي حقيقة وجود دول أخرى في المنطقة، وفي آسيا بأسرها، بدأت ترى، رغم خلافاتها، ضرورة “خلق مساحة اقتصادية أوروآسيوية داخلية، خالية من حماقات العالم الغربي المتهالك” حسب “يفغيني سوبر” الذي أضاف: إن “هذا الطموح يضع عملياً أساساً للعالم الجديد، وسوف تكوّن شرايينه الطرق اللوجستية والأنظمة المالية الجديدة”.
هنا تبدو قمة طهران، مع الحذر الشديد في التفسير، أقرب إلى تمثيل العالم القادم من قمم واشنطن المتلاحقة، فهي حاجة لأطرافها جميعاً -ولأطراف أخرى تبدو حاضرة رغم غيابها، كالصين والهند مثلاً- على اختلاف مصالحها، لترجمة مفهوم الاستقلال السياسي والاقتصادي الذي يطالب به كل على طريقته ولأجل مصلحته التي تتبدّى اليوم، وخاصة الاقتصادية منها، بالتشبيك مع الآخرين.
المختبر السوري
بيد أن “قمة طهران” تحديداً تواجه مختبراً ضرورياً لإنضاج توجّهاتها وهو دمشق التي ينخرط في جرحها أطراف القمة كلهم، وإن لاعتبارات مختلفة، فكما كان “يوم” الثلاثاء السوري نقطة تأسيس لا يمكن تجاهلها، لما حدث عالمياً، كما أسلفنا، فإن “الأيام” السورية بكاملها هي نقطة اختبار لـ”حدوث” قمة طهران بمعنى تبوّئها موقعها الذي تطمح إليه، و”عبورها” بالتالي إلى المنطقة بأسرها، ونقطة انطلاق ذلك ونجاحه قبول تركيا، بل إذعانها، للضرورات والحتميات الموضوعية لتحقيق ذلك، وهو سورية المعافاة، وذلك يشترط أولاً إعادة قراءتها، إيجابياً للشروط، بل البدهيات، السورية الوطنية المعروفة المتمثلة بوقف دعمها الإرهاب في الشمال، وانسحابها من المناطق التي تحتلّها، وعودتها إلى التشبيك مع دمشق، وعبرها، مع المنطقة، وغير ذلك ستكون “قمة طهران” لحظة أخرى أضاعها أردوغان على مذبح أوهامه المعروفة، وبالتالي شبيهة بـ”قمم” بايدن الأخيرة، فهل ستسمح طهران وموسكو له بذلك؟!.