نضال سيجري… اجتاح قلوب محبيه واستقر في عقولهم بإبداعه
البعث الأسبوعية- جمان بركات
قبل أيام قليلة من رحيله.. قال نضال سيجري بصوته المبحوح: “خانتني حنجرتي فاقتلعتها… أرجوكم لا تخونوا أوطانكم”.
في ذكراك التاسعة تراءت صورتك كموجة حب تطلّ من بين الضباب عبر أغنية شارة فيلم حمل عنوان “عطر الليمون.. تحية لروح نضال سيجري” هذا الفيلم الذي كتب له السيناريو وأخرجه الكاتب إلياس الحاج، وشارك فيه كلّ من كان له معك ذكرى ما في يوم ما، إذ تجلّت مقولة الفيلم بحسب رأي صاحبه بأنه تحية بحرية بـ”عطر الليمون” إلى روحك، فأنت رحلت في وقت ليس وقت الموت، وليس وقت انكسار الإبداع ووهن القلوب، فهل يعقل أن تكون قد تعبت وأنت الذي بشّرت بكثير من الفرح، والتزمت منذ بدء الحرب على سورية موقفاً واضحاً يدعو إلى الحب بوصفه بوصلةً وخلاصاً، وكانت لك مبادرات ووجهتَ رسائل عدة للسوريين بكل أطيافهم، لعلّ أكثرها رسوخاً ما قلته قبل أن ترقد رقدتك الأخيرة: “بعد قليل سأحلم بأنّ كل السوريين سيبدؤون العمل معاً لإعادة البناء.. بعد قليل إذا لم تخرج بلادي من وجعها سأتمنّى الموت، وأغادر مع هذا العام البائس المليء بالسرطان، تحيا سورية بكل أبنائها”.
لم تكن يوماً قاسياً إلا في غيابك، ولم تكن بخيلاً إلا حينما حرمتنا من حضورك، وبين حضورك وغيابك تبقى نضال سيجري الذي اجتاح قلوب محبيه، واستقر في عقولهم بإبداعه وثقافته الواسعة، فمنذ وعيت الحياة حملت الفن رسالة لخدمة قضايا أمتك وحقها في الحياة الحرة الكريمة.
المسرح الجوال
لو كان مُتاحاً للراحل نضال سيجري أن يقف طيلة سنوات عمره على المسرح، لما غادره إطلاقاً، الوقوف على الخشبة عندهُ كان يختلف كلياً عن الوقوف أمام الكاميرا، هناك شيء ما مختلف في الأمر، لا يُدرك جوهرهُ سواه، ولا أعتقد أن الأمر يتعلق بالحنين والنوستاليجا وغيرها من الأمور المشابهة إطلاقاً، الموضوع، ببساطة شديدة، أن نضال سيجري كان شغوفاً، أو مهووساً بصورة أدق، بالمسرح، لذلك، كان الأخير، أي المسرح، الجزء الأهم من حياته الفنية، وإن كان قد تألق أيضاً تلفزيونياً.
كانت أحلام نضال سيجري المسرحية تكاد لا تنتهي، فكان طموحه –قبل تخرجه من المعهد العالي للفنون المسرحية- تأسيس مسرح جوال يطوف به مدن ومحافظات سورية حتى أصغر قرية فيها، وكان في جعبته مئات الأحلام الفتية التي رحلت معه ولم تر النور، لكن روحه الجميلة وأعماله باقية في وجداننا نذكره بها ونترحم عليه فيها.
مسرح الطفل
أما في مسرح الطفل فكان لنضال أكثر من تجربة، منها إخراجه لمسرحية “سندريلا والأمير” ومسرحية “هايدي والأمير المسحور” وهو يقول في هذا الصدد في حوار أجرته معه مجلة “الحياة المسرحية” قبل خمسة أعوام: “من الأمور التي حفّزتني على خوض تجارب مسرحية للأطفال ذاك التوجه نحو ترسيخ تقاليد مسرحية يأتي في مقدمتها مهرجان ربيع مسرح الأطفال والدور الذي يلعبه، وقد ساهمتُ في مسيرة المهرجان من خلال أكثر من عمل”.
نقطة علام في الدراما
نجمه الذي لمع ولا يزال في دوره في مسلسل “ضيعة ضايعة” الذي كان نقلة نوعية في الكوميديا السورية.. يذكرنا كل لحظة به، ويذكر محبو نضال سيجري أن الفنان الذي سحرهم بأدائه وصوته، قد سحرهم بالقدر ذاته وانتزع دهشة يستحقها وهو يؤدي بصمت بعد عملية استئصال حنجرته، ولاسيما في مسلسل “المفتاح” الذي كتبه خالد خليفة وأخرجه هشام شربتجي، حيث قدّم شخصية “كمال” الفنان التشكيلي الذي تغلب عليه صفات الرومانسية والشاعرية، والذي تهجره زوجته الأجنبية بعد فقدان صوته وتقرّر العودة إلى بلادها، ليلتقي بعدها بسيدة أخرى يُعجب بها وتتطور علاقتهما لتصبح حميمية يتخللها الإعجاب والاشتياق والحنين، لكن الظروف الاجتماعية التي تحيط بالسيدة تدفعه إلى الانسحاب من حياتها حتى لا يسبّب أذى في علاقتها مع أسرتها ومع محيطها، كما لفت الأنظار إلى حرفيته في فهم طبيعة الشخصية والعلاقة التي تربطها بالشخصيات الأخرى في مسلسل “الخربة” للمخرج الليث حجو، فقدم شخصية “نعمان” العائد إلى الخربة ليفضح زيف بطولات أبو نايف الذي طالما تغنى ببطولاته التي كان نعمان “الغائب” شاهداً عليها.
لنضال سيجري في التلفزيون ما يزيد على المئة مشاركة، استطاع من خلالها أن يرسم لوجوده في الشاشة الصغيرة نكهة خاصة، برزت من خلاله اشتغاله الصادق على أبعاد الشخصية وتبنيها فنياً، بحيث تصبح من لحم ودم سواء أكانت كوميديا أم تراجيديا، أم ضمن المسلسلات التاريخية أو البيئية.
ومن أهم أعماله: “العبابيد” و”بقعة ضوء” بأكثر من جزء و”أبناء القهر” و”أيامنا الحلوة” و”مرايا”، و”عصر الجنون” و”ليالي الصالحية”، و”الانتظار” و”غزلان في غابة الذئاب”، و”الحصرم الشامي”، و”ضيعة ضايعة” و”مرسوم عائلي” و”زمن العار” و”إذاعة فيتامين”، و”كليواباترا”.
وأيضاً بعد استئصال حنجرته، ظهر نضال سيجري في دورين صامتين، في مسلسلي “بنات العيلة” و”الأميمي” عام 2012، وتعاون فنياً مع المخرج الليث الحجو في ثلاثة مسلسلات هي “الخربة” و”أرواح عارية” و”سنعود بعد قليل”.
قام بإخراج فيلم “طعم الليمون”، الذي تناول فيه يوميات عائلات لاجئين فلسطينيين ونازحين سوريين من الجولان السوري، إضافة إلى مهجرين عراقيين اجتمعوا في منزل واحد، في حي فقير.
قام بالمشاركة في عدة أفلام ممثلاً مثل “الطحين الأسود” و”خارج التغطية” و”حادثة على الطريق” و”الترحال” و”زهرة الرمان”، وغيرها.
غادر “ضيعة ضايعة”
تم تكريم نضال سيجري في إطار الدورة الخامسة عشرة لمهرجان دمشق المسرحي في 2010، وكرمه مسرح بابل في العراق بعد رحيله بعرض مسرحية “حمام بغدادي” التي كانت من إخراجه.
اختصر الشاعر عمار سليمان علي في 11\7\2013 يوم وفاته بكلمته:
لماذا تركتَ الضيعة ضايعة يا نضال سيجري؟!
أما المشهد الأخير له، فجاء تلبية لوصية نضال سيجري عندما سجى جثمانه على خشبة المسرح القومي في اللاذقية، قبل أن تسدل الستار على مسيرته ويوارى الثرى في مدينته اللاذقية.