القرن الأمريكي يحتضر… انقسام داخلي حول السياسة الخارجية
البعث الاسبوعية-هيفاء علي
تبدو الولايات المتحدة عاجزة عن مواجهة الأزمات التي تحدق بها، اذ يوضح صعود الصين، وولادة عالم متعدد الأقطاب، أن القرن الأمريكي يحتضر ويعيش أيامه الأخيرة. لكن ما الذي سيحدث بعد ذلك، وهل سيشهد العالم عودة التنافس بين القوى العظمى على النفوذ، أم أن تراجع القوة الأمريكية سيؤدي إلى ظهور أشكال جديدة من التعاون الدولي؟.
تتحدث بعض مؤسسات الفكر والرأي عن وجود انقسام في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية إلى معسكرين متعارضين، ففي الوقت الذي يصر فيه الليبراليون الذين يدافعون عن الوضع الراهن على أن تحافظ الولايات المتحدة على مكانتها المتمثلة في التفوق العسكري العالمي، يقف ضدهم دعاة الاعتدال الذين يدافعون عن إصلاح جذري للنهج الأمريكي للسياسة الخارجية، وذلك بالتخلي عن النزعة العسكرية لصالح الطرق السلمية لتحقيق مصالحها.
هذا الانقسام انعكس في الصحف الأمريكية ذات التوجهات المختلفة التي شنت انتقادات شديدة على العجوز بايدن وفريقه الحاكم، حيث أشارت “نيويورك تايمز” إلى أنه حتى الديمقراطيين اعترفوا بأن رئيسهم الحالي ليس على مستوى المهمة، وأن معظم الديمقراطيين لا يريدون بايدن في عام 2024، وفقاً لأحدث استطلاع للرأي أجرته الصحيفة التي تضيف أن الديمقراطيين يشككون في وجود بايدن في عام 2024، معلنةً على لسان أحد صحافييها أن جو بايدن أصغر من أن يصبح رئيساً مرة أخرى.
حتى “الطبقة الحاكمة” الديموقراطية قالت إن بايدن أصبح الآن رئيساً ضعيفاً، وأنه لن يترشح مرة أخرى حتى تُعرف نتائج الانتخابات النصفية الكارثية المحتملة، ليس بسبب الضعف العقلي لبايدن، بل بسبب عدم كفاءة الأشخاص المحيطين به والذين يشكلون سياساته بشكل أساسي، الأمر الذي دفع المحللين للتعليق على الحالة المؤسفة لرجال الدولة الغربيين مثل منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، ووزير الخارجية أنتوني بلينكين الذي انتقد الصين أولاً، و”التحدي المنهجي” الذي من المفترض أن تمثله، ومن ثم قام بمحاولة وهمية بشكل مثير للشفقة لإقناع نظيره الصيني بالتخلي عن موقف بكين المصطف إلى جانب روسيا بشأن أوكرانيا، وبالتالي فشلت سياسة بلينكين المناهضة للصين فشلاً ذريعاً، حيث وضعت واشنطن سلسلة من الخطط لمواجهة الصين، لكنها لم تحظ بما يكفي من الدعم في المنطقة.
حتى التحالف بين الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، المعروف باسم “الرباعي”، لم يحقق هدف واشنطن منه، حيث تشتري الهند كميات ضخمة من النفط الروسي، فيما تلقت مجموعة اقتصادية جديدة من 14 دولة بقيادة الولايات المتحدة، الإطار الاقتصادي الهندي والمحيط الهادئ، استقبالاً فاتراً من أعضائها لأنها لا تقدم تخفيضات جمركية للسلع التي تدخل الولايات المتحدة، ولا يزال اتفاق تبادل التكنولوجيا بين الولايات المتحدة وبريطانيا لمساعدة أستراليا على نشر غواصات تعمل بالطاقة النووية غامضاً. لذلك تعمل هذه “النخبة” التي فكرت في هذه السياسات الآن على رعاية بايدن لمنعه من ارتكاب المزيد من “الأخطاء”.
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” ذكرت قبل أيام أن البيت الأبيض كان قلقاً للغاية بشأن عمر بايدن، وأن رحلتة إلى الشرق هي لأخذ قسط من الراحة. وبحسب المحللين، إن رحلة بايدن وبلينكين إلى الشرق الأوسط أضافت مجموعة من الإخفاقات، وأن العجوز بايدن جاء إليها في محاولة لإبطاء برنامج إيران النووي، وتسريع تدفق النفط إلى المضخات الأمريكية، وإعادة تشكيل العلاقات مع السعودية. لكن ورغم ذلك ستكون كل الجهود الثلاثة محفوفة بالمخاطر السياسية لرئيس يعرف المنطقة جيداً، والذي يعود للمرة الأولى منذ ست سنوات بنفوذ أقل بكثير مما يعتقد الآخرون، علماً أن بايدن كان قد أعلن قبل شهر إنه لن يقابل ولي العهد السعودي، إلا أن العالم كله شاهد صوره وصور بن سلمان وهما يتصافحان، والسبب أنه يحتاج إلى زيادة إنتاج النفط السعودي.
وبحسب هؤلاء المحللين، كانت العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران قد فشلت بسبب بايدن وبلينكين عندما تعثرا لعدة أشهر بعد تنصيبهما قبل بدء المحادثات، ومن ثم صاغا مطالب جديدة لم ترض عنها إيران، وها هما يجدان نفسيهما اليوم مضطرين إلى مناقضة حججهم الخاصة. ففي أوائل الربيع، قال وزير الخارجية بلينكين، ان إنتاج كميات كبيرة من اليورانيوم لا يجعل الاتفاق النووي مع إيران المبرم عام 2015 باطلاً أو عفا عليه الزمن، ولكنه تراجع اليوم كثيراً.
كما أنه نتيجة للأزمات المالية المختلفة، والإفراط في الإنفاق، اختفى النفوذ المالي للولايات المتحدة، وكما أثبتت فشلها في الشرق الأوسط، والآن في أوكرانيا، فإن جيشها غير قادر على كسب الحروب ضد المنافسين الكبار والصغار. ليس هذا فحسب، بل تضاءل دور الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية بسبب الجهود المتنافسة من جانب الصين وروسيا، مثل برنامج “الحزام والطريق”، وبنك التنمية الآسيوي، وممر العبور بين الشمال والجنوب في روسيا وإيران.
لم يحقق القرن الأمريكي الأهداف السامية التي حددها له حكم القلة، لكنه أظهر أن محاولات السيطرة على العالم بالقوة مآلها الفشل، وستكون مهمة المائة عام القادمة هي ليس خلق قرناً أمريكياً، بل قرناً عالمياً، حيث لن تكون قوة الولايات المتحدة محدودة فحسب، بل سيتم تقليصها، وفيه تكرس كل دولة نفسها لحل المشاكل التي تواجه العالم بأسره.
وفي ذات السياق، كتب الصحفي أوسكار فورتين مشيراً إلى أنه من الواضح أن العالم لم يعد يسمح لنفسه بأن تحكمه الولايات المتحدة الأمريكية، القوة التي أعلنت نفسها وكيل الله لتوجيه شعوب وأمم الأرض، وقد اتخذت السياسة الخارجية الأمريكية بعد أحداث 11 أيلول بعداً بلاغياً شبه ديني، حيث لم يتردد بوش الابن في استحضار “معركة الخير ضد الشر”، معتقداً أن لديه مهمة يجب إنجازها، وهي محاربة الإرهاب، واتباع سياسة تحمي الأمريكيين من الشر المطلق الذي يمثله مزيج من الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل و “الدول المارقة”.
من الواضح أن هذه الدول المارقة هي تلك التي تقاوم تدخّل الولايات المتحدة، وتؤكد استقلالها وسيادتها. أما بالنسبة للإرهابيين، فإن الرئيس هو الذي يقرر ويحدد من هم، ولكن ماذا عن استخدامهم للإرهابيين واستقدامهم من كل أصقاع الأرض في حربهم في سورية وليبيا؟ وماذا عن العالم متعدد الأقطاب؟.