هكذا تدمر الولايات المتحدة حلفاءها … الاتحاد الأوروبي مثالاً
البعث الأسبوعية-سمر سامي السمارة
تُظهر الولايات المتحدة، “ربيبة” أوروبا تاريخياً، التي انطلق منها سكان العالم الجديد، موقفاً غيوراً تجاه المدرسة الأم “ألما ماتر”. لكن من المرجح، أن هذا الموقف تفاقم بشكل خاص في العقود الأخيرة عندما دخلت أمريكا مسار الصراع التنافسي الحاد مع أوروبا في الاقتصاد والتجارة والهيمنة العالمية.
من خلال تعزيزها لسياسة إضعاف النخب الوطنية واقتصاد الدول الأوروبية، تمكنت الولايات المتحدة من إخراج أوروبا من قائمة منافسيها. وفي سعيها لتصبح القطب الوحيد للعالم، تمكنت واشنطن من تدمير أوروبا القديمة، والهيمنة على النخبة السياسية الجديدة، والتركيز لجعل البيت الأبيض يحل محلها، بهدف القضاء على توازن الآراء القائم آنذاك، وأخيراً إضعاف الدول الأوروبية.
نتيجة لذلك، أصبح كلاً من البرلمان الأوروبي والقوانين التي اعتمدها رعاة الولايات المتحدة لحماية الاتحاد الأوروبي، تهدف اليوم إلى الامتثال المطلق للتعليمات الصادرة عن البيت الأبيض، والتي لا تعكس سيادة أوروبية حتى أن معظمها يتعارض تماماً مع مصالح الأوربيين أنفسهم.
تلعب هذه “الموجة الأمريكية” الجديدة من السياسيين دوراً أساسياً في السياسة الأوروبية، إذ لا تتوان واشنطن عن فعل أي شيء لزرع مثل هذه الدمى المطيعة مع الهيئات المسؤولة عن اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي، ولعل المدير السابق لصندوق النقد الدولي، دومينيك شتراوس كان، الذي تعرض للتشهير عندما حاول اتخاذ قرارات غير مواتية للولايات المتحدة، وحتى مع ظهور براءته، حيث تمكن البيت الأبيض من إبعاد السياسي غير المرغوب خير دليل على السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة. ومن المؤكد، أنها ليست الحالة الوحيدة، فقد تعرض العديد من السياسيين الأوروبيين لضغوط مماثلة.
بعد الأزمة الأوكرانية، التي أحدثتها واشنطن من خلال إيصال نظام نازي واضح إلى السلطة في كييف، تطالب الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي بفرض العديد من العقوبات ضد روسيا، وبطبيعة الحال، تكون واشنطن الأقل تأثراً بهذه العقوبات مقارنة بشركائها الأوروبيين، حيث يعاني الأوروبيون بشكل خاص من مثل هذه السياسة التي تنتهجها واشنطن لإضعاف الاتحاد الأوروبي كمنافس لها.
لذا، فقد ساءت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا، كما ارتفعت أسعار السلع والمنتجات الغذائية والطاقة الكهربائية ووقود السيارات، و يبدو أن نوعية الحياة التي اعتاد عليها الأوروبيين آخذة في التدهور، كما أن الشركات تفقد قدرتها التنافسية.
وبحسب تقديرات الخبراء، فإن الخسائر المباشرة التي تكبدها الاتحاد الأوروبي نتيجة العقوبات قد تتجاوز 400 مليار دولار في العام المقبل، ويتحمل سكان وشركات الاتحاد الأوروبي هذه التكاليف مباشرة، وقد تجاوز نمو التضخم في بعض دول منطقة اليورو فعلياً 20٪.
من الواضح، أن الولايات المتحدة تريد أوروبا الضعيفة والجائعة، لكي تبقى رهينة لأية إشارات ترسلها واشنطن، وهذا ما يفعله السياسيون، الذين زرعتهم الولايات المتحدة في هياكل الاتحاد الأوروبي المختلفة، خاصة فيما يتعلق بقطاع الطاقة حيث أصبح الوضع أكثر تعقيداً.
لطالما كانت إعادة تخصيص سوق الهيدروكربونات، هي المحرك الرئيسي للجيوبوليتيك الأمريكي، لذا أطلقت الولايات المتحدة العنان لعدة حروب، وأثارت انقلابات ونزاعات أخرى من أجل السيطرة على هذا السوق.
ونظراً لاحتمال ازدياد حصة الغاز في أعمال الطاقة بشكل كبير، فإن اهتمام الولايات المتحدة في الحصول على الهيمنة العالمية في هذا السوق قد زاد هو أيضاً. واستناداً إلى الدور الهام الذي تلعبه السوق الأوروبية في هذا المجال، بدأ البيت الأبيض، تحت ذرائع مصطنعة بحتة – من خلال السياسيين ووسائل الإعلام الأوروبية الخاضعة للسيطرة الأمريكية – النضال ضد التهديد المزعوم بسبب اعتماد الاتحاد الأوروبي على الطاقة القادمة من روسيا، ونتيجة لذلك، بدأ ظهور عوائق مصطنعة أمام إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. وبذلك وجد الاتحاد الأوروبي، الذي انحدر إلى هوة التبعية للولايات المتحدة، بسبب السياسة التي ينتهجها أتباع واشنطن في بروكسل، مثل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل، نفسه في مواجهة أزمة الغاز والطاقة الشاملة. وبعد إعلان شركة “بيكر هيوز” الأمريكية قرارها بوقف خدمة جميع مشاريع الغاز الطبيعي المسال الروسية، أصبحت سوق الغاز الأوروبية أكثر اضطراباً، حيث سحبت الولايات المتحدة مهندسي خدماتها من مشاريع الغاز الروسية المتعلقة بأوروبا، وبعد أن وعدت أوروبا بتعويض الخسائر الناجمة عن انخفاض الإمدادات من غاز الأنابيب الروسي الرخيص مع الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، وبالتالي محاولتها أن تصبح المورد الرئيسي لمصدر الطاقة هذا إلى أوروبا، وضعت الولايات المتحدة شروطاً صعبة على الإتحاد الأوروبي. وبحسب مجلة “فوربس”، يتعين على أوروبا دفع رسوم إضافية لموارد الطاقة من تخفيض الطلب من قبل المستهلكين الآسيويين.
ومع ذلك، لم تضطلع واشنطن بهذه المهمة عملياً، حيث عرّضت الأوروبيين للمزيد من الأزمات. على سبيل المثال، أصاب مصنع فريبورت لتصدير الغاز الطبيعي المسال في تكساس عطل طارىء، لكن محطة التصدير التي وفرت 68 ٪ من الغاز الطبيعي المسال من المصنع إلى أوروبا لن تعمل لمدة ثلاثة أشهر تقريباً. كما تفاقم الوضع في سوق الغاز الأوروبية، بسبب تعطيل أوتاوا لإصلاح وصيانة وإعادة توربينات الغاز في “نورد ستريم”، ومؤامرة العقوبات الشديدة التي تفرضها الولايات المتحدة وكندا، ما أدى إلى التخفيض القسري لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا.
أدى كل ذلك، إلى ارتفاع أسعار الغاز في بورصة أوروبا حيث وصلت إلى 25٪ تقريباً. ونتيجة لذلك، تضاعفت أسعار الغاز في البورصة عدة مرات، ما أدى إلى زيادة التوترات الاجتماعية في دول الاتحاد الأوروبي. وبالتالي، وفقاً لتقارير وسائل الإعلام الألمانية، فقد ترتفع أسعار الغاز للمستهلكين في ألمانيا بمقدار ثلاثة أضعاف، فضلاً عن إغلاق العديد من الشركات وإفلاسها.
لذلك فإن تحول الأوروبيين عن سياسة واشنطن الاستفزازية السافرة والمناهضة لأوروبا في “حرب الغاز” التي شنتها أمر لا مفر منه، فقد أصبح الانخفاض الذي حدث مؤخراً لقيمة اليورو، الذي علق عليه العالم آمالاً كبيرة، واعتبره المنافس الرئيسي للدولار الأمريكي، صراعاً تنافسياً واضحاً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
في السنوات الأخيرة، تحول تدفق المهاجرين إلى مسرح آخر للحرب بين الولايات المتحدة والعالم القديم. ومع ذلك، إذا كانت هذه التدفقات لآلاف اللاجئين القادمين إلى أوروبا من البلدان والمناطق المعرضة للأعمال العسكرية الأمريكية فيما سبق مثل مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فقد أصبحت في الأشهر الأخيرة من الأوكرانيين. وبحسب البيانات التي قدمتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تجاوز عدد اللاجئين الأوكرانيين 8 ملايين.
في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنه، حتى عام 2017، عندما اجتاحت أوروبا تدفقات هائلة من اللاجئين، كان الاتحاد الأوروبي، تحت ضغط الرأي العام، يرفض منذ فترة طويلة استضافة مئات الآلاف من اللاجئين من الشرق الأوسط. ومع ذلك، قامت شركة الاستشارات الأمريكية “ماكينزي” المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوكالة الاستخبارات المركزية بسحق المسؤولين الأوروبيين وتطوير الخدمات اللوجستية لاستضافة مليون مهاجر جديد في أوروبا، وهذا ما يحدث الآن مع اللاجئين الأوكرانيين، إذ يتعين على الاتحاد الأوروبي إنفاق أموال كبيرة على حساب حل المشكلات الاجتماعية في بلدانهم.