مقارنة مع الصين … هل ولى زمن الولايات المتحدة؟
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
دخلت الولايات المتحدة في مرحلة يمكن تسميتها بالحرب الباردة الجديدة ضد روسيا والصين، ويبدو أن السبب الواضح لتحرك الولايات المتحدة حسب زعمها هو الرغبة في الحفاظ على تفوقها العالمي في مواجهة التحدي الصيني.
وعلى الرغم من تمتع الولايات المتحدة باقتصاد مدعوم بالثقل المالي الكبير وبراعة البحث و التطوير، وهي مريحة ديموغرافياً، فقد تأثرت قوتها الناعمة بالتطورات في الداخل الأمريكي وسلوكها غير المتسق على مستوى العالم، كما تظهر المعايير القياسية للازدهار مثل الناتج المحلي الإجمالي أن هناك تغيراً طفيفاً في الحصة الأمريكية على مدار الأربعين عاماً الماضية، حيث لا تزال تمثل حوالي 25٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ففي عام 1980، كانت حصة الولايات المتحدة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي 25.16٪. أما اليوم، وبعد مرور أربعين عاماً، أصبحت النسبة نفسها تقريباً عند 24.2 في المائة. ومع ذلك، وفي نظر العالم، فإن الانتكاسات الأمريكية بدءاً من الحرب في فيتنام وما تلاها من تدخلات كارثية في العراق وأفغانستان قد أفسح المجال لتراجعها وتقدم منافسيها.
التطورات المحلية
كانت النكسة الحقيقية للولايات المتحدة في قوتها الناعمة، وقد تجلى ذلك بطرق مختلفة، وأحد مقاييس ذلك هو الإنقسام السياسي العميق في سياساتها الداخلية، حيث كانت استطلاعات الرأي تظهر باستمرار أن 70 في المائة من الناخبين الجمهوريين لا يرون بايدن رئيساً شرعياً للولايات المتحدة الفائز الشرعي في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. كما كاد القطاع المالي في البلاد أن يدمر بسبب الأزمة المالية العالمية لعام 2008. ونتيجة لذلك، فإن ثروة العائلات الأمريكية لم تتعاف بعد من تأثير تلك الأزمة، وازداد عدم المساواة في الدخل في الولايات المتحدة منذ عام 1980 وهو أكبر مما هو عليه في البلدان النظيرة. و بمرور الوقت، افترضت الولايات المتحدة أن ديمقراطيتها المتفوقة ونظام حوكمتها لن ينافسهما أحد. ومع ذلك، يبدو أن هذا النظام يسير في طريق مسدود، ولم يعد قدرة نظام الولايات المتحدة السياسي على العمل بطريقة الحزبين موجودة. وبالنظر إلى هذا الوضع، يبدو أن البلاد غير قادرة على التعامل مع مشاكلها الاجتماعية المزمنة بدءاً من إطلاق النار الجماعي، والعنف المرتبط بالأسلحة النارية إلى الفقر المزمن والتشرد وتعاطي المخدرات، حيث أدى ذلك كله حتماً إلى ظهور وجهة نظر مفادها أن الولايات المتحدة في حالة تدهور لا رجعة فيها.
العولمة
ويرتبط بذلك النهج المتعثر للولايات المتحدة تجاه العولمة، حيث ساعدت الولايات المتحدة، التي لم تتضرر إلى حد كبير من الحرب العالمية الثانية، في تشكيل ما يسمى بالنظام الدولي الليبرالي، والذي يقوم على ثلاث ركائز: نظام الأمم المتحدة للحفاظ على النظام الدولي، والوكالات المنتسبة لتعزيز معايير الصحة والعمل، وأخيراً، منظمات مثل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي لتنظيم النظام الاقتصادي العالمي، وكلها للتعامل مع التحدي الذي كان يمثله الاتحاد السوفييتي السابق، حيث قامت الولايات المتحدة بصياغة سلسلة عالمية من التحالفات العسكرية مثل منظمة حلف شمال الأطلسي، ومنظمة المعاهدة المركزية، ومنظمة معاهدة جنوب شرق آسيا، والتي لم ينج منها جميعاً سوى الإسم الأول.
لقد تم استخدام نظام التجارة العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة، وانسحبت منه فيما بعد من قبل الصين كي تظهر أولاً، كمصنع للعالم، وثم كقوة عسكرية متنامية باطراد. لكن مع تركيزها على حربها المزعومة على الإرهاب والكوارث في العراق وأفغانستان، بدأت الولايات المتحدة في إهمال أجزاء كبيرة في الداخل الأمريكي، وظهرت اتجاهات سياسية تشكك في الدور الأمريكي العالمي، ومنطلقات الأممية الليبرالية، الأمر الذي زاد من التساؤل عن دفع الولايات المتحدة حصة غير متكافئة لكل شيء، في مجال الأمن العالمي ونظام الأمم المتحدة.
في عام 2016 تم انتخاب دونالد ترامب رئيساً، وترافق ذلك مع بروز العديد من القضايا الشائكة، حيث ركزت إدارة ترامب على الحرب التجارية مع الصين، والازدراء بالمنظمات الدولية، وخرجت من معاهدة الشراكة عبر المحيط الهادئ. والأسوأ من ذلك، كان الرئيس غير مبال بحلفاء أمريكا العسكريين وشركائها وطالبهم بدفع نصيب عادل من أجل الحفاظ على أمنهم، وعندما ضرب العالم جائحة كوفيد-19، رفضت الولايات المتحدة تولي القيادة العالمية لمكافحته.
الصين
مقارنة مع الصين، شهدت الولايات المتحدة تراجعاً، فمن حيث تكافؤ القوة الشرائية، انخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من 50 في المائة في عام 1950 إلى 14 في المائة في عام 2018، في حين تجاوزتها الصين بنسبة 18 في المائة. تجدر الإشارة إلى أن عدد سكان الصين أكبر بأربعة أضعاف من سكان الولايات المتحدة، وكان اقتصادها ينمو بمعدل أسرع ثلاث مرات، وكانت المجالات الأخرى مثل البحث والتطوير وفي مجال تعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، تنمو أيضاً بسرعة في الصين.
كانت المساعدة الأمريكية ذات مرة، في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، قد بنت أوروبا وأحدثت تحولات في القطاع التعليمي والزراعي في الهند ودول أخرى، لكن مع مررو السنوات تراجع الدور الأمريكي، وكأن اشارات أفول نجمها قد بدأ بالسطوع.
في المقابل توصلت الصين إلى مبادرة “الحزام والطريق” لتوفير بنية تحتية صلبة في جميع أنحاء العالم. بين عامي 2001 و 2018، قدمت الصين قروضاً بقيمة 126 مليار دولار أمريكي إلى البلدان الأفريقية، واستثمرت ما قيمته 41 مليار دولار أمريكي، بينما الولايات المتحدة التي تحاول مضاهاة الصينيين ليس لديها الكثير لتظهره حتى الآن.
حفاظاً على الهيمنة… الحرب الباردة الجديدة
مع حلول الحرب الباردة الجديدة، كان الانطباع السائد هو الافتقار إلى التماسك في استجابة الولايات المتحدة. لقد استخفت إدارة ترامب بإصلاحات أوباما المحلية مثل قانون “الرعاية ميسرة التكلفة”، وكذلك اتفاقية ” الشراكة عبر المحيط الهادئ”، بل على العكس استخدمت مجموعة متنوعة من الوسائل والعقوبات مثل التعريفات، وقوانين مراقبة الصادرات، والقيود المفروضة على فئات معينة من الطلاب الصينيين لكبح الصين. ومع ذلك، فقد حددت بوضوح الصين باعتبارها التهديد الرئيسي للهيمنة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ. ومن ناحية أخرى، لم تقدم إدارة بايدن بعد نسخة رسمية من سياستها تجاه الصين، لكن جهودها للقيام باستثمارات عامة ضخمة في البرامج الاجتماعية والبنية التحتية والبيئية فشلت في التغلب على الجمود السياسي في الكونغرس الأمريكي.
ربما حان الوقت للولايات المتحدة لتغيير نظرتها للعالم باعتبارها القوة المهيمنة ووحدها القادرة على قيادة العالم، فقد ولى الزمن الذي كانت فيه الولايات المتحدة صاحبة المركز الأول في المجالات الاقتصادية والعسكرية، وهي الآن في مرحلة تجاوز فيها الاقتصاد الصيني بالفعل الاقتصاد الأمريكي، وفي العشرين عاماً القادمة، قد يكون هذا الرقم أكبر بعدة مرات، الأمر الذي يمكّن الصين من مواكبة النفقات العسكرية الأمريكية أيضاً، خاصةً أن الصين تتمتع برؤية خاصة بها- نجمت من مكانتها العالمية في التاريخ – وهي المملكة الوسطى.