الشاعر الليبي جمعة سعيد الفاخري
البعث الأسبوعية- أمينة عباس
مثَّل ليبيا كشاعر في اجتماع مجلس الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، وشارك في مهرجان الشعر العربي الذي كان من ضمن فعالياته.. مسيرته الإبداعية تمتد لنحو ثلاثين عاماً، وهو وإن تنقَّل فيها بين الشعر والقصة والشذرات إلا أنه يميل للشعر أكثر، ومازال يؤمن أن الشعرما زال ديوان العرب في الوقت الذي يردد فيه الكثيرون أن هذا الزمن ليس زمن الشعر.
*كيف تعامل النقد مع تجربتك الإبداعية؟
**أنصفتني الدراسات الأكاديمية من رسائل ماجستير ودكتوراه التي أعدّها طلّاب في الجامعات الليبية والفلسطينية والإيرانية، أما النقّاد الذين يشتغلون في حقل الأدب فلم يتابعوا تجربتي بشكل جيد، والسبب أن التواصل بين النقاد والأدباء في الوطن العربي مازال ضعيفاً، إضافةً إلى أن الطاغي على الساحة النقدية في ليبياهو النقد الانطباعي وهو ليس جاداً أو أكاديمياً، وهو نقد مجامل وليس محايداً، في حين أن الدراسات الأكاديمية التي تناولتْ أعمالي ضمّت نقداً جاداً وهي دراسات مهمّة قدمتها أسماء مهمّة في هذا المجال.
*عند ماذا توقّف النقاد ملياً في تجربتك؟
**منهم من توقف عند تجربتي بشكل عام في القصةوالشعر والشذرات، ومنهم من توقف عند جانب من جوانب كتاباتي الإبداعية، ولكن أكثر ما توقف النقاد عنده في تجربتي كانت اللغة المختلفة التي أكتب فيها في حقل السرد والتي أكتبها بوجدان شاعر حيث يتعانق فيها الشعر مع السرد، فأنا عندما أكتبُ شعراً أجنح كثيراً للمجازات ولغة الخيال، وهي لغة الشعر لأن الكلام العادي ليس شعراً حتى ولو جاء في مضمون شعري لأن الشاعر ينبغي عليه أن يتخيّر مفرداته وألفاظه وتعابيره وطرائق إيصال أفكاره للناس وألّا يقع في هوة التكرار الذي يصيب المتلقي بالسأم.
*يهتم بعضُ الشعراء باللغة اهتماماً كبيراً بحيث تتحول إلى غاية بحد ذاتها، فكيف تتجنب ذلك؟
*لا ينبغي للّغة أن تكون غاية بحد ذاتها عند الشاعر، وهو إن فعل ذلك فإنّما يمارس لغة التعالي على المتلقي، فاللغة عندي وسيلة أعبّر من خلالها بشكل صحيح ومتقن عما أريد البوح به للمتلقي دون أن أستعرض مهاراتي فيها.
*كيف تكتب قصيدتك؟
**القصيدة بالنسبة لي تكتبُ نفسها وتملي عليّ ما أريد قوله، لذلك لا أحدد الشكل الذي ستظهر به لأنها ترتدي ما تراه مناسباً لها.. وبالعموم أقول إن الشاعر يتهيأ لكتابة القصيدة ويبيّت النيّة لكتابتها لأن القصيدة لا تهبط عليه من علم الغيب وإنما تأتي برضاه ولكنها تتخيّر شكلها ولغتها والطريقة التي تأتي بها، فتختار البحر والقافية والشكل..إن القصيدة هي التي تقود الشاعر، ومن النادر أن يختار الشاعر بحر قصيدته باستثناءات قليلة تتعلّق بموضوع الرثاء والبكائيات حيث يختار ما يناسب العويل والبكاء والضجيج الداخلي، وأستغرب من النقاد حين يثنون على ما تخيله واختاره الشاعر، ولكن هذا لا يعني أن قصيدته تظل بكراً كما راودته لأن أي شاعر مهما ارتجل من قصائد لا بدّ أن يعيد النظر في صياغتها من حذفوتعديلوإضافة.. إلخ، لأن القصيدة في الولادة الأولى لا بد وأنها تتضمن بعض الأخطاء العروضية أو النحوية بسبب انشغاله بالولادة الأولى، ويكون جلّ همّه إنجاب المولود بدايةً، ثمّ يلتفت إلى قصيدته فيعتني بها.
*التجريب في الشعر مغرٍ للأجيال الشابّة، فهل وُفّق المجرّبون فيه في الساحة الليبية؟
**إلى حدّ ما، وكلّ بقدراته، وأعتبر تجربة الشاعرة إيملا ميهون والمهدي الحمروني وهو شاعر كبير ومختلف لديه قدرة كبيرة على التجريب واستنطاق الماضي والاستعانة بالموروث في أجمل صوره، وتعدّ كتاباته دروساً في التاريخ بلغة شعرية جذابة، وهناك أيضاً شعراء قصيدة النثر وخاصّةً الشباب،فهم يكتبون أيضاً قصيدة مختلفة وجميلة تتبرأ من الزوائد وتحفل بالمجازات العميقة بلغة راقية واقتصاد لغوي مهم.
*ما زال كثيرون لا يعترفون بانتماء قصيدة النثر إلى الشعر، فهل هذا الجدل مازال موجوداً في ليبيا؟
**هذا الجدل ليس موجوداً كثيراً في المشهد الشعري الليبي، فقصيدة النثر فرضتْ نفسها في ليبيا وكل الأوساط العربية، وهي قصيدة لها شعراؤها ونقّادها وجمهورها ولها أكاديميون ينشغلون بها ويوجهون تلامذتهم إلى دراستها، وأعتقد أن المسألة اليوم باتت محكومة بالجودة ومن يكتبها بوجدان شاعر، وأشير إلى أن هناك من فشل في ميدان القصيدة العربية الرصينة التي تعتمد على الصدر والعجز، فلم يستطع أن يكتبها بعروضها المعروفة فاتّجه إلى قصيدة النثر وهي قصيدة لها أسرارها الخاصة ولا ينجح بها إلا من يدرك هذه الخفايا والأسرار التي فيها، وهي تنتح من معين الحياة الذي لا ينضب، وتعتمد على موسيقاها من داخلها وعلى كيمياء الحروف المتشابهة والمتداخلة والمكرّرة وعلى التفاعيل العروضية التي تُنتج موسيقا داخليةلا ينتبه إليها إلا المتخصص والذواق والمتبحر في فن الشعر، ولا بد من الإشارة إلى أن المشهد العربي أنتج نتاجاً على هذا الصعيد نتيجةً للقراءات العالميّة وتوخياً للتجديد أنتجت أنواعاً أخرى من القصائد مثل الومضة (البرقية) وقصيدة الهايكو التي لي منها ديوانان هما “قاب قلبين أو أدنى” و”تفضحين مخبأ البرق”.
*ما الذي يغريك ويغري الشعراء الآخرين في كتابة قصيدة الهايكو؟
**ما أغراني وأغرى الاخرين من الشعراء لكتابة قصيدة الهايكو أن العالم اليوم يتجه نحو الاختصار والتكثيف بما يتناسب مع عصرنا الذي أصبح فيه كل شيء مصغّراً ومكثّفاً، إضافةً إلى أن الناس اليوم ليسوا متفرّغين كما كانوا في السابق، فليس لديهم الوقت الكافي لقراءة المعلّقات التي كانت تُعنى بموضوعات كثيرة، حيث تبدأ بالوقوف على الأطلال وذكر الأحبة والغزل والصيد، أما الآن فالشاعر يركّز على موضوع واحد أو جزئية منه في كتاباته، وأحياناً يتناول فكرة بإيجاز واختصار لغوي ولفظي بعيداً عن الاستسهال اللغوي الذي يرغم صاحبه في كثير من الأحيان على تكرار العبارة والجمل وهذا ما جعل الشاعر يندفع نحو ابتكار فنون جديدة للتعبير عن نفسه وعمّا يحيط به.. لقد كتبتُ هذه القصيدة وتناولتُ في قصائد الهايكو العديد من تفاصيل الحياة، فكتبتُ عن الطفل وهو يثرثر ويلعب بألعابه وكيف يتفنّن في ابتكار ألعاب جديدة، كما كتبتُ عن الأمومة وأنا أراقبُ أماً تغدق حبها على طفلها ولو بنظراتها، كما كتبتُ عن عمر المختار والمجاهدين وعن تفاصيل الحياة وعن العشق والجمال : “على المسرح ترقص فاتنتي، في الصّالة يعانقني ظلّها” وهناك مجموعة كبيرة من الشعراء يكتبون الهايكو اليابانية ولكن بالوجدان العربي، فقصيدة الهايكو اليابانيّة تمجّد الطبيعة وتكاد تنحصر موضوعاتها فيها، أما الهايكو العربية فقد تناول كتّابها كل تفاصيل الحياة.
*تكتب القصة والشذرات والشعر، ولكن يبدو أنك تميل للشعر أكثر؟
**أنحاز إلى الشعر على حساب السرديات الأخرى التي لا أتنازل عنها، فأنا بدأت شاعراً وهو الحب الأول، لذلك تطغى الشعرية عندي على كل ما أكتبه.
*متى تلجأ إلى القصة؟ وما الذي يميز ما تكتبه في هذا المجال؟
*لا ألجأ إليها عن قصد، وتثيرني فكرة أو موضوع فأكتب، وقد تأتي بقصيدة أو قصة أو شذرة، مع الاعتراف أنهناك موضوعات لا تعالج إلا بالقصة وهناك موضوعات لا تليق إلا بالشعر، وأكتب قصة واقعية تنتمي للحياة وأستمدّ موضوعاتي من الواقع وألبسها ثوباً مختلفاً، ولا أخفي أنني أرش عليها من روح الشعر شيئاً لتفتن القارئ وتعلق في ذهنه.
*كيف تصف لنا المشهد الشعري الليبي حالياً؟ وهل كثُر الشعراء فيها وقلّ الشعر كما يُردّد في كثير من البلدان العربية؟
**في ليبيا تكاد تكون المعادلة متساوية، إذ لدينا شعراء كثر وشعر كثير، ولا أخفي أن هناك بعض الشعراء ينظمون الشعر الذي يسبح في الإسفاف، ولكن في الغالب هؤلاء لا يستمرّون في الساحة الشعريّة، فالجيّد هو الذي يبقى، وتكتب الأجيال الحديثة في ليبيا شعراً جميلاً وبوعي، ولا تزال القصيدة العربية العمودية تحتفظ بفتنتها ولها شعراؤها وقرّاؤها ونقّادها الذين يشتغلون على هذا النوع من القصيدة التي لا تزال تحتفظ بوهجها، والشعراء الليبيّون عامة يكتبون قصيدة مميزة لا تخرج عن السياقات العربية في كتابة القصيدة ولكنها في الغالب تُقدّم ما هو جديد ولدينا أسماء كثيرة الآن في المشهد الشعري مثل محمد المزوغي صاحب قصائد صوفيّة عظيمة وعمر عبد الداية وصلاح الغزال وغادة البشاري وصادق السوسي ومتروكة بن قارح.. أما فيما يخص قصيدة النثر فهناك شعراء كثيرون يكتبون هذه القصيدة وفي مقدّمتهم المهدي الحمروني وعزة رجب والشاعر الكبير المفتاح العمّاري وهو اسم كبير لم يحظَ بالانتشار اللازم.
*ماذا تحدثنا عن المشهد الثقافي اليوم في ليبيا في ظل الحرب؟
**المشهد الثقافي جيّد مقارنةً مع ظروف الحرب التي تحدّ من الأنشطة، ومع هذا تنتشر الأنشطة والفعاليات الثقافية والأمسيات والمهرجانات،وهناك حفلات توقيع الكتب المستمرّة، كما تزدهر في ليبيا الصالونات الأدبية كصالون الشاعرة حنان محفوظ، وقريباً سيُقام في بنغازي المعرض الدولي للكتاب، وهذا كله يقدم ضمن أجواء الحرب غيرالعاديّة التي لابد أن ترخي ظلالها على كل ما يقدم.
*وماذا عن حضور المرأة في هذا المشهد؟
**تشارك المرأة في المشهد الثقافي بطريقة لا تقل عن مشاركة الرجل، ولدينا أسماء مبدعة في القصة والشعر والأدب بصورة عامة.
*كيف أثّرت الحرب في ليبيا على الأدب؟
**أي واقع ينتج واقعاً موازياً، فالحرب أنتجتْ أدب الحرب (قصص، شعر، رواية) وجميع هذه الكتابات تناولت ظروف الإنسان أثناء الحرب، وهذه الكتابات التي أُنتجت أثناء الحرب إما أنها كانت نابذة للحرب أو أنها وثقت أحداثها والتأثيرات التي أحدثتها على الناس وكانت لي كتابات حول الحرب وتأثيراتها مثل قصة “قناص” وهي تتحدث عن قناص بعد نهاية الحرب ظلّ متأثراً بما كان يقوم به حين كان يتّخذ وضعية القناص أمام كل ما يتحرّك أمامه وبشكل لا إرادي، وهذا يعني أن الناس في الحرب خرجوا بأمراض نفسية كثيرة ألقت بظلالها الرمادية على نفسياتهم،وهكذا هي الحرب، كلّ ما فيها بشع ومؤلم.
*ما الذي تغير في نظرتك لما يحدث في سورية بعد أن زرتَها؟
**قدم الاعلام المعادي لسورية صورة مغلوطة جداً عما يحدث فيها.. لقد كان هذا الاعلام يظهر لنا أن الإرهابيّين الذين يظهرون على الإعلام الغربي أبطال ومنتصرون، ولكن بدا لي ولكل من جاء إلى سورية أن إرادة الشعب السوري هي التي انتصرت، وقد لمسنا حجم الدمار التي تعرّضت له دمشق وما وجدناه أن سورية تتعافى وتستعيد حياتها وجمالها وانتصارها للحياة، فالإنسان السوري رفض الانكسار رغم مرارة الحرب وارتداداتها من فقرٍ وعوز وسيعود فينيقاً عظيماً يبني بلده من جديد.
*بعد هذه الزيارة إلى دمشق ماذا ستكتب في ليبيا عنها ؟
*سأكتب عن الجمال الذي رأيتُه فيها وعن صبر الإنسان السوري وإيمانه بالحياة والوطن الذي دافع عنه وتمسّك به في سبيل أن يبقى.
د.جمعة الفاخري
من مجموعاته القصصية: صفرٌ على شمال، رمادُ السَّنواتِ المحترقَة، امرأةٌ متراميةُ الأطرافِ، التَّرَبُّصُ بوجْه القمر” وفي الشعر أصدر مجموعة داووين منها: اعترافاتُ شرقيّ معاصر، حَدَثَ في مثلِ هذا القلب، توقيعاتٌ على وَجْنَةِ القَمَرِ، تقمَّصتني امرأةٌ” وقدمنحتَهُ الخرطومُ عاصمةُ الثَّقافَة العربيَّةعام 2005 درع الثقافة العربيَّة، وكرَّمَه ملتقى القصَّة القصيرة جدًّا بحلب عام 2008وفي الرَّقَّة عام 2009 واختير شخصيَّةَ العام الثقافيَّة بليبيا عام 2010ومنحه اتحاد المثقفين العرب لقب عميد الأدباء العرب، وتُرْجِمَتْ بعضُ قصائدِهِ وقصصِهِ للِّغةِ الإنكليزيَّةِ، وتُرْجِمَ ديوانُهُ “اعترافاتُ شرقيّ معاصرٍ) للفرنسيَّة، كما تُرْجِمَتْ بعضُ نصوصِهِ الأدبيَّة للِّغَة السُّويديَّةِ والفارسيَّة والفرنسيَّة والإنجليزيَّة والأمازيغيَّة.