“مرايا الروح”.. قدرنا أن نموت وتبقى أحلامنا
عمر محمد جمعة
منذ أن تصدّرت الأسطر التالية مجموعتها الأولى “لوحات موجعة من أرض الوطن” عام 2017 والتي جاءت ضمن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، كنا نكتشف أن الأديبة ناديا إبراهيم أوقفت الغالب الأعم من كتاباتها لرصد تداعيات الحرب وحكاياتها الموجعة. تقول في مجموعتها آنفة الذكر: “كنت أحاول أن أطفئ حرائق القرى والمدن السورية العزيزة، مثلما كنت أطفئ بها حرائق روحي وأنا أرى يد الحرب السوداء تمتد لتأخذ أبي وأختي والكثير من أقربائي وجيراني، كان عليّ أن أكتب هذه القصص قبل أن أصاب بالجنون، لعلها كانت نجاتي”. لتعود في مجموعتها الثانية “مرايا الروح” الصادرة عن دار دلمون الجديدة عام 2021 إلى الثيمة ذاتها، وقد اشتدت الحرب أكثر، وكثُر ضحاياها ممن عرفتهم أوعرفوها، وذلك في أربع عشرة قصة، وربما نقول لوحة، هي إلى حدّ كبير استكمال لما خطّته في مجموعتها الأولى، إذ سيحضر المخيم وأهله الذين قهرتهم الحرب وبدّدت أرواحهم، وستنقلنا معها إلى شوارع دمشق وأحيائها والقرى والبلدات التي تسوّرها، لتروي لنا قصص وحكايات الأرواح القلقة والقلوب الراجفة التي أفجعتها الهجرة والفقدان والموت والقذائف والتفجيرات، وصارت البيوت المقفرة والمقابر وركام الأبنية وجهتها.
لقد آثرت الكاتبة ناديا إبراهيم أن تتغلغل في تداعيات ما سبق لتقدم لنا في سردياتها الحزينة تلك المرأة التي هاجر أبناؤها ذات مساء، والمدرّسة التي شهدت استشهاد الأستاذ فخري أبو الهيجا في “ومضةحنين”، وميساء تواسي صديقتها بتلى بعد فقدان زوجها وحكايتها مع أبو خضر العجوز الذي كان يخصّها كل صباح بباقة ورد جوري ترمّم روحها المنكسرة وهي التي تربي أبناء أخيها الذي استُشهد في الجولان في قصة “مبللة بالانتظار”، وهي المعلمة غثوة السلامة التي تواجه الأستاذ غسان في “الكابوس” الذي يريد إلحاق ابنيها رئيف وصالح بما يسميه “الثورة”، تلك الحكاية التي تتضافر مع مدير المدرسة المتقاعد خيرو العلال في “الغربة” وقد كان يعمل سائقاً بين المناطق الساخنة والآمنة قبل أن يخطفه المسلحون دون أن يكترثوا بأنه والد الشهيد وصفي وابن ذلك الفدائي الذي استُشهد على أرض فلسطين، والمرأة التي تأصّل الحزن داخلها في “مرايا الروح” بعد زواج ابنتها من الشاب الذي تحبه رغماً عنها وابنها الذي حمته الأقدار وعاد إليها سالماً بعد أن أوشك على الضياع. وبتول في “ما فعلته الحرب” التي مات زوجها في تفجير انتحاري كبير، لتضطرها قساوة الأيام للعمل في معمل للحلويات وبعده في مشغل للخياطة لتسقط روحها دفعة واحدة وهي تواجه من غرّر بابنتها القاصر غفران المدعو أبو الطير وهو بعمر والدها، وتشهق بالبكاء وهي تصغي إلى قولها: “لا أريد العودة يا أمي.. عودي وحدك”. لتضيف: “لم لا وهي التي استيقظت باكراً على حبّ عميق افتقدته في طفولتها يوم استُشهد والدها وتركها في المهد تناغي الأبوة الراحلة”. وأم بدر في “ربما تعود يوماً” التي اختفت في المقبرة حزناً على ولدها الفتى بدر الذي اغتاله تفجير هدم البيوت ودمّر واجهاتها وطيّر أبوابها وشبابيكها، ولم يرحم شيخوخة أبو بدر الذي قضى ثلاثة عشر عاماً في سجون الاحتلال في غزة. هو الموتُ ذاته الذي مزق أبو رشيد في “بقعة الأرجوان” وحوّله إلى أشلاء ودماء متناثرة. وأبو حسن الشايط الفدائي أيام أحراش الأردن في “احترق بالغياب” الذي ماتت زوجته وهام عشقاً بسونيا التي ابتلع البحر أيضاً حبيبها ليحول ابنه إبراهيم بينه وبين هذا العشق المتأخر، فيموت شوقاً للقائها. والأستاذ طحيمر الشاعر والكاتب الذي ماتت زوجته وابنته عمشة بعد أن فجر المسلحون بيته لينتقل إلى مركز الإيواء قبل أن يغريه صديقه عقبة بالسفر إلى الخليج بلاد الثروة الموهومة والنخيل، فيقع في حب زوجة أحد الأمراء ويكتب فيها أرقّ القصائد، ليعود جثة هامدة إلى أرض الوطن بعد أن مزقته كلاب الأمير في “غدار يا زمن”.
لقد استخدمت الكاتبة في معظم القصص سرداً آسراً مشبعاً بالحزن مشدوداً إلى الماضي وذكرياته الموجعة، عدا قصتين هما “مساكب الدفلى” و”صفعة عمر” اللتين بدتا كمنولوج داخلي طويل لم تشهدا الصراع المتنامي المطلوب توفره لإنجاح القصة وعوامل قبولها وتأثيرها. وأرخت الحربُ بما حملت من فجائع بغلالة سوداء على الأغلب الأعم من حكايات “مرايا الروح”، حتى لكأنّ الكاتبة تمجّد الموت في نهاياتها وهي التي تقول في “ومضة حنين”: قدرنا أن نموت وتبقى أحلامنا”. فأي أحلام وقد غدت المقابر المعتمة مدافن لأي حالم بانتهاء الحرب، وأي تحول سينسينا أم بدر التي ظلت تجلس فوق الركام، تمسكُ بثياب ولدها الوحيد وحقيبته وكتبه، وتحضنها وتنتحب بصوت مفجوع أبكى نساء الحيّ المعزيات اللواتي التففن حولها ولم تستطع واحدة منهن زحزحتها من المكان الذي بقي يعجّ برائحة الفقد والموت؟. وقولها أيضاً: “بالأمس لم تكن تعني لي القبور سوى الموت الأبدي الذي لا مفرّ منه، واليوم غدت تحتلّ في قلبي كل الساحات، بل أقرب لنفسي من حبل الوريد، تحت ثراها يتمدّد جسد داخل وطن”.
ولعلّ ما يغفرُ للكاتبة كلّ هذا السواد الذي برعت كثيراً في تصويره ورسم ملامحه أنها أرادت أن تنكأ الجراح لترمّم بعض الخراب الذي عصف بأمنياتنا المشتهاة وتمسح عن مرايا الأرواح المتعبة بعض الخدوش التي شوهت أحلامنا المشتهاة أيضاً.
“مرايا الروح” مرثاةٌ للاحتراقات المستعرة في قلوبنا ووجداننا حتى اللحظة، حسرة أبو خضر في قوله: “كم أشتاق إلى رائحة المخيم وشوارعه وحاراته ودكاكينه، الله يجازي من كان السبب في تشردنا عنه”، وغضبه وهو يشتم أبناءه الذين تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى مهاجرين عبروا البحار ليصلوا إلى دول أوروبا وتركوا المخيم يفترسه الشيطان. حزن الآنسة رفح وهي ترى الشام بشوارعها العتيقة وبيوتها العريقة وتتنشق رائحة حاراتها الضيقة وقد هجّرت أهلها الحرب وترصدهم الموت على ترابها.