أين الأغنية الاجتماعية المحلية؟
حلب-غالية خوجة
لا أحد ينكر دور الأغنية كرسالة فنية هادفة للارتقاء بالمجتمع، خصوصاً، عندما تتناعم عناصرها الثلاثة: الكلمات واللحن والصوت، مما يجعلها علامة عابرة للمكان والزمان، لماذا؟ لأنها تهتم بالإنسان وهمومه وعواطفه وقيمه وأخلاقه وانتمائه وهويته، لتمنحه طاقة إيجابية فيبني ذاته بذاته، وبالتالي، يبني عائلته ومجتمعه ووطنه والإنسان.
ولذلك، فالأغنية الاجتماعية الإنسانية تعكس الوعي الثقافي الاجتماعي لبيئة ما، فكلما ارتقت بمعالجتها لقضايا المجتمع بمحبة وفنية ارتفع مؤشر الوعي في هذا المجتمع، وتحصّن ضد التفكك والخراب، وهذه المعادلة تتناسب طرداً مع قيم المجتمع وبنيته ارتفاعاً وهبوطاً.
وبشكل عام، نفتقد الأغنية الاجتماعية المؤسِّسة لثقافة إنسانية راقية من خلال معالجتها المشاكل والقضايا والمفاهيم الاجتماعية وتطوراتها، وتقدير الإنسان كلٌّ في موقعه، فلا يعقل أن تظل الأغنية السائدة هي الغزلية الرومانسية الملخصة بعلاقة الحبيب بالحبيبة، والتي قد تكون فجة ومحسوسة وهابطة، ورغم ذلك يطلقون عليها “شعبية” وهي براء من ذلك، لأن البنية الاجتماعية الشعبية، غالباً، تتمتع بذائقة حساسة وانتقائية.
أوغاريت أنشدت للإنسان
منذ أول قطعة موسيقية مكتشفة في التأريخ –مملكة أوغاريت القديمة كانت سورية السباقة إلى الموسيقا وفنونها وكلماتها وآلاتها وارتقائها بالإنسان، وكانت عبارة عن أنشودة ابتهالية من الإنسان للخالق عبْر الفصول النفسية والبيئية والطبيعية، ولقد قدمت في “الرابسودي السوري” بدبي.
حكاية القصيدة
لقد ساهمت ندرة من الفنانين العرب في حضور هذه الأغنية في البنية الاجتماعية العامة، واتسمت بالكثير من الفنيات، أهمها قصة القصيدة، وحكاية الحدث، وقصيدة الشخصية، وملحمة الجموع، وللمتابع أن يلاحظ كيف قدمت بالفصحى والمحكية والزجلية والنبطية.
ما أسباب اختفاء الأغنية الاجتماعية السورية؟
وحول هذه الأغنية المحلية الاجتماعية التوعوية التثقيفية، تساءلت البعث الأسبوعية: أين هي؟ ولماذا تفتقدها الساحة السورية؟ سواء المخصصة لذوي الهمم والاحتياجات الخاصة؟ أم الموجهة للأيتام؟ لأبناء الشهداء؟ لجريح الوطن؟ للأطفال؟ للشباب؟ للأم؟ للأب؟ للزوج؟ للزوجة؟ للأسرة بهدف عدم التفكك العائلي؟ لصلة الرحم والعصب؟ ومساعدة كبار السن؟ لآثار وسلبيات الزواج المبكر؟ لتكريس قيم هامة مثل الصدق والأمانة؟ أم تلك الموجهة لمكافحة الرشوة والفساد والجشع والنفاق والسرقة والكذب؟ أم الموجهة للتعليم مثل المدرسة والمعهد والجامعة؟ للطلبة؟ للقراءة؟ للصداقة؟ للغربة؟ للهجرة؟ للسفر؟ والموجهة لمهنة من المهن الموروثة والمعاصرة مثل عامل النظافة والخباز والخياط والميكانيكي والسائق والفلاح والمزارع؟ أم تلك التي تغني للذاكرة التراثية المكانية؟.
مشروع كبير ومستقبلي
أجابنا الموسيقار عبد الحليم حريري رئيس نقابة الفنانين بحلب: المواضيع التي ذكرتها هي مواضيع ثقافية غير ربحية، وبالتالي، تحتاج إلى جهة ثقافية إنتاجية تتبنّى هكذا مشروع، وتضع له ميزانية إنتاجية، وتكلف شخصاً بالإشراف الفني والمالي مع صلاحيات الإنفاق والصرف ضمن الميزانية المقررة والموضوعة، وهذا الشخص هو من سيكون المسؤول عن استكتاب الشعراء وتكليف الملحنين والموزعين الموسيقيين وتنفيذ الاستوديو، ومن الممكن إنشاء وتأسيس لجنة مهمتها الموافقة مبدئياً على الشعر الغنائي وموضوعه فقط.
لكن، هل تستطيع نقابة الفنانين المبادرة مبدئياً؟
أجاب: مستحيل، لأن المشروع بحاجة لميزانية مناسبة، لأنه مشروع كبير وليس بسيطاً.
فسألته: هل هناك مجال لتشارك جهات معينة ومعنية معاً في هذه المبادرة؟ مثلاً، وزارة الثقافة، ووزارة الإعلام، واتحاد الكتّاب العرب، ونقابة الفنانين، ومجالس المحافظات، والمؤسسة العامة للسينما، والمنظمات مثل منظمة طلائع البعث، ومنظمة الشبيبة، واتحاد الطلبة، وغرف النجارة والصناعة؟
أجاب: المشروع مكلف جداً، خصوصاً، إذا تشعبت المواضيع، وبرأيي، من الصعب تنفيذه في الوقت الحالي والظروف الحالية، ولكن، من الممكن أن يكون أحد المشاريع المستقبلية في حال التشاركية بين الجهات.
ألحن النصوص فمن سيتبنّى؟
ورأى الفنان عمر سرميني أن الموضوع يحتاج إلى تعاون مع الشعراء، وأضاف: ممكن ألحن النصوص، أحتاج للنص الذي يرتبط بمثل هذه المواضيع، لكن، هل هناك من يتبنّى مثل هذه المواضيع؟
عالجتها في تجربتي
وأكد الشاعر صفوح شغالة على وجود هذا النمط الغنائي في تجربته منذ البداية، وهي لا تخلو من أرشيفه الغنائي وأعماله الفنية المتواصلة والمستمرة ومنها “ابني جوعان”.
رسالة متناغمة مع المجتمع
وبدوره، أجاب الكاتب الإعلامي معن الغادري-مدير مكتب جريدة البعث بحلب: الغناء والموسيقا رسالة من خلالها بالإمكان تشكيل رأي ووجهة نظر تحاكي المجتمع بتنوعه، وهي ذائقة من المفترض أن ترتقي إلى قيمة المكان والزمان، وبالتالي، يجب أن تكون الأغنية بكلماتها ولحنها نابعة من البيئة التي نعيشها، وتعطيها القيمة الحقيقية وأن تكون متناغمة ومنسجمة مع عناصر ومكونات المجتمع ككل.
هجمات على منظومة القيم
وأجابنا د.فاروق أسليم عضو المكتب التنفيذي قي اتحاد الكتّاب العرب: تنصرف الإجابة عن هذه التساؤلات إلى الحديث عن إشكاليات في ثقافتنا الوطنية، وهي إشكاليات لا يرجع ظهورها إلى العشرية المؤلمة، بل لها حضور سابق، مؤسس على تفتت ما في منظومة القيم المجتمعية بخاصة، نتيجة هجمات ثقافية وافدة لم نحسن التعامل معها إيجابياً، ولقد عظم شأن تلك الهجمات باتساع دائرة الاتصال المرئي بخاصة، وهي دائرة جاذبة جداً لجيل الشباب، ويغلب عليها، في الوقت نفسه، تسطيح قيمنا المجتمعية الرئيسة التي تنحاز إلى أنماط الأغنيات التي أشرتِ إليها، ومع ذلك، لا يمكن نفي وجود بعض هذه الأنماط الغنائية، لكنها بلا شعبية، وهذا الأمر، في ظني، يرجع سببه الرئيس إلى سطحية فنية من جهة الكلام واللحن والأداء، وإلى إحساس المتلقي أيضاً بوجود مفارقة بين ما يقال وما يحدث حقيقة.
ولفت إلى أن الارتقاء بالأغنية ذات الرسالة المجتمعية والوطنية يحتاج، أولاً، إلى فنية عالية تجمع بين ذوق الناس وتوجهاتهم النفسية والفكرية، ويحتاج، ثانياً، إلى إحداث نقلة ثقافية نوعية في مجال الثقافة الوطنية وأبعادها المختلفة الأخلاقية والدينية والقومية العربية، إضافة إلى توفير الدعم المادي المناسب وتوسيع دائرة التلقي وتنويعها.
الوعي بالتربية الشمولية
بينما أجابنا موسى الأحمد أمين فرع حلب لمنظمة طلائع البعث: في هذا المجال للمنظمة باع طويل، وكان السبّاق كل من الشاعر سليمان العيسى وعيسى أيوب، وبالتالي، من خلال أهازيجهما أوصلا لنا رسائل اجتماعية ووطنية، والطفل ينجذب إلى المجال الموسيقي، وهذا الهدف كمنظمة نحققه في المجال الأدبي والأخلاقي والوطني والفني والجمالي من خلال التربية الشمولية الواضحة أيضاً في مناهجنا، ومنها “لغتي” الكتاب الذي يبدأ بنشيد الجمهورية العربية السورية، وهناك مستطيل يلونه الطالب بألوان العلم، ولذلك، حولنا لون العلم الوطني إلى أغنية، فلا يخطئ الطالب في ترتيب ألوان العلم، ولدينا في المعسكرات “الصيحة المحورية” نوظفها في الشعار الخاص بكل يوم، ونقيم الدورات التدريبية، كما نحرص على تبادل الخبرات، ونوظف الأغاني مع اللعب التعليمي الهادف، ونوظف الموسيقا في التمثيل والمسرح، كما أننا مؤمنون بالتكامل وجاهزون للتعاون والتشارك مع جميع الجهات المختصة والمعنية لأن بناء الطفل يبني المجتمع.
أمّا عن كيفية انتشار هذه النتائج في بنية المجتمع؟
فأجاب: لقد خرجنا إلى المجتمع من خلال عدة مبادرات منها التوسع الخارجي، والوصول إلى أصدقاء الوحدة الطليعية، ليكون بين المدرسة والمجتمع المحلي علاقة تبادلية، وانطلقنا إلى الحدائق والساحات، ومجالس الأمهات، وسبق وأن شاركت 1500 امرأة في أحد المجالس الحوارية التي أقيمت في الأحياء الشرقية.
البث النهاري وندوة في حلب
الأديب الإعلامي د.فايز الداية: الأغاني الاجتماعية بألوانها موجودة في رصيد الملحنين والمطربين والمطربات، ويمكن البدء ببثها في أوقات النهار، ولكن الأمر يتطلب الهمة واستخراج الأغاني الفردية والجماعية من “أرشيف” الإذاعات والتلفازات في العواصم العربية وتبادلها ثم نشجع الملحنين والمؤلفين والمطربين على إنتاج جديد، ولا بد من ترك الاستسهال بتكرار الرائج والأغاني الفيروزية المكرورة، فالصباح والنهار فيه متسع لعديد من الأصوات والألحان السورية والعربية عامة، وأقترح عقد ندوة في حلب تناقش إجراءات النهوض بهذا الجانب المهم بدراسات واقتراحات عملية.
أين المسابقات المحلية؟
وأكدت القاصة الشابة المهندسة ياسمين درويش على أهمية الشعر في هذا المجال، لا سيما وأن هناك الكثير من الأغاني لتمجيد البطولة الوطنية ومنها “سورية يا حبيبتي”، كما أن هناك أغنية للفنان زبير وحيد موجهة لذوي الاحتياجات الخاصة “ما منسلم حالنا لليأس والملل، منحقق آمالنا بالجد والعمل”، وأضافت: أعزو هذا الفقد لعدم وجود شعراء وشاعرات يمتلكون الموهبة والإبداع، كما أن على الجهات المعنية إقامة مسابقات محلية تعنى بهذا النوع من الشعر الفصيح والمحكي لرفد الساحة الأدبية بهذه المواهب الشابة.
اختصاص الجهات الحكومية
وكذا، أكد الأديب عبد القادر بدور رئيس مجلس الجمعية العربية المتحدة للآداب والفنون: العمل الفني يتطلب مقومات أهمها الدعم المادي، وله هدفان، الأول الربحي البحت، ويرصد له من أجل كتابة الأغنية وتلحينها وتوزيعها وغنائها، وبعد ذلك يمكن أن يكون لهذه الأغنية فيلم أو “فيديو كليب” أو ما شابه، والهدف الثاني الاجتماعي، الثقافي، التثقيفي، التوعوي، وأراه من اختصاص الجهات الحكومية المعنية مثل وزارة الثقافة ووزارة الإعلام، ولا نرى انتشاراً لهذه الأغنيات بسبب عدم توجيه الحكومة والجهات المعنية لهذا الأمر، فلا يمكن أن يقوم أحد بمفرده بمثل هذا الأمر، أو تقوم به عامة الناس، لأن التوجه سيكون ربحياً، تسويقياً، ترويجياً، أمّا توعوياً فهو من اختصاص أصحاب السيادة والنفوذ والمال والموافقات، وهذا مناط بالحكومة، أو الوزارات المعنية.
وأضاف: الجمعيات والأندية الثقافية، مثل جمعيتنا، بحاجة إلى تمويل، فأية جهة ستمول لنا أغنية عن ذوي الاحتياجات الخاصة أو الشهداء؟ وعندما نرى ونسمع مثل هذه الأعمال الفنية، فغالباً ما تكون باجتهاد شخصي، هناك من كتب أغنية للشهداء، ثم لحنها موسيقي بالموانات، وهناك من غنّاها بهدف معين، لكن، هذه الأغاني الاجتماعية المحلية أرى أن تكون ضمن خطة كل من وزارة الثقافة والإعلام، وأن تكون، دائماً، هناك مجموعة من الأعمال الفنية ليس فقط الغنائية، بل من الممكن أن تكون درامية ومسرحية لهذا النوع من التوجيه التثقيفي لا سيما من خلال الأغنية، تماماً، كما تدعم وزارة الثقافة الأعمال المسرحية الموجهة لذوي الاحتياجات الخاصة وأبناء الشهداء.
من ذاكرتنا الجميلة
ولو سألنا القارئ العزيز: ماذا تذكر من هذه الأغاني الراسخة في الوجدان العربي من المحيط إلى الخليج؟
لربما أجابنا: تمثيلاً لا حصراً، فايزة أحمد “ست الحبايب”، شادية “سيد الحبايب يا ضناي أنت”، فريد الأطرش “الربيع”، عبد الحليم حافظ “دقوا الشماسي”، أم كلثوم “رباعيات الخيام”، وديع الصافي “على الله تعود”، ميادة حناوي “كان يا ما كان”، صالح عبد الحي “ليه يا بنفسج”، فهد بلان “لأركب حدك يا الموتور”، محمد فؤاد “الحب الحقيقي”، سميرة توفيق “صبوا القهوة”، شريفة فاضل “ابني حبيبي”، ملحم بركات “وحدي”، أغنية “شويخ من أرض مكناس- للشاعر الأندلسي أبو الحسن الششتري، سيد درويش “الحلوة دي قامت تعجن”، فيروز “أنا وشادي”، ناظم الغزالي “عيرتني بالشيب”، سعاد حسني “البنات ألطف الكائنات”، سعدون جابر “عشرون عاما”، خالد عجاج “فيه ناس”، صباح الشحرورة “ع البساطة”، وردة الجزائرية “أوراق الورد”، و”أنا عندي بغبغان”، ماجدة الرومي “كن صديقي”، نادية مصطفى “الصلح خير، سلامات يا حبايبنا”، نوال الزغبي “فوق جروحي”، ومنهم أجانب من أصول عربية مثل داليدا خصوصاً في أغنيتها “حلوة يا بلدي”، والملفت أن للأغنية الوطنية رصيدها المحلي والعربي مقارنة بالثيمات الموضوعية الأخرى.