الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مهادنة الحزن

سلوى عباس

ينتابني بين وقت وآخر إحساس بالغربة وعدم الجدوى من أي شيء، فأهربُ من نفسي وممن حولي، وحتى الكتابة التي أحاول أن أتحرّر عبرها من وحشتي، وتمثّل لي وهماً جميلاً أتنفس من خلاله، أشعرُ أنها بلا جدوى أيضاً، لكن وبحكم الظرف المهني أضطر للكتابة وأفاجأ بتعليقات زوار صفحتي الزرقاء التي تنتشلني من غربتي وأعود من جديد، وأحوّل كهوفي المظلمة إلى منارات أساطير بضوئها وأرى الحياة بألوانها، وأسعى إلى ملامسة الحقيقة المختبئة وراء كلمة أو حركة أو حتى نظرة، وإلى نزع القناع عن وجه المجهول علّني أصبح أكثر معرفة وأشدّ وعياً وأقوى عمقاً ووضوح رؤية، رغم إدراكي صعوبة أن يصل الإنسان ولو لجزء من الحقيقة، لكن هو الفضول يدفعنا دائماً للاكتشاف والمعرفة، والإصغاء لأحلامنا ومعرفة الحياة التي هي مغامرة يجب أن نخوضها، وعلينا أن نصوّب نحو النجاح لا إلى الكمال، ولا نتخلّى عن حقنا في ارتكاب الأخطاء، وإلا فقدنا القدرة على تعلّم أشياء جديدة والتقدم في الحياة، فالخوف يختبئ دائماً وراء النزعة إلى الكمال.

في دردشة عابرة مع أحد الأصدقاء حول الحياة ومفاهيمها وقيمها، سألني عن الصداقة ومن هم أصدقائي؟ فوقفت حائرة أمام السؤال ولم تسعفني الذاكرة باسم أنطق به، وكم أحزنني هذا، فقد اكتشفت أن لديّ الكثير من المعارف لكننا لم نحقّق شرط الصداقة، ففي كلّ يوم أجد نفسي في مواجهة مع صديق اعتبرته في يوم ما مرآتي، لأفاجأ بهذا الصديق وفهمه الخاطئ لكلمة أو موقف حصل بيننا فيرتد إلى ذاته وكأننا غرباء عن بعضنا، ويطلق عليّ حكمه القاسي لتنطبق عليّ مقولة: “لا تتفاخر بأن لديك أصدقاء بعدد شعر رأسك، فعند الشدائد ستكتشف أنك أصلع”، وهذا ما يحصل معي كلّ فترة وأخرى، فأنا أبدو للجميع إنسانة مفعمة بالفرح، في جعبتي الكثير من المسرات ومصنع وفير الإنتاج للضحكات وأسباب الغبطة.. ربما أبدو كذلك، وقد يظنّ أني مجبولة بطول البال والأناة والقدرة الدائمة على إضافة الهدوء والشاعرية على الوقت والأمكنة، وأني أدخل البهجة دائماً إلى الآخرين، أسرّبها من بين أوجاعهم وهمومهم إلى السبل المودية إلى قلوبهم، وأرسم البسمة على وجهي حتى لو علمت أن الأمور لا تسير على ما يرام، فأنا أحبّ الحياة وكلّ ما فيها، وأسعى أن أجعل من حياة الآخرين أكثر يسراً ومحبة، ولم أعتد أن أصنع غيوماً من رماد وأبثّها في رحاب السموات، ولا أجرؤ على أن أغيّر لون الورد أو أن أداري الشمس عن الشروق، لكن ما يتجاهل الآخرون رؤيته فيّ أنني أيضاً أحمل في داخلي إنسانة حزينة مثقلة بالتعب والهموم وهاوية للنكد.. إنسانة ألفتها منذ زمن بعيد ولا أستطيع فكاك عهودي معها، أو نقض حالة تشابكها المتعب فيّ.. أحاول أن أحجبها عن التمادي في استلابها لكلماتي، وتنطعها عني في اتخاذ قراراتي.. إنها إنسانة حزينة تهادنني أحياناً وتصقل ابتهاجي بشفيف شاعريتها التي تتبدى عادة في كلماتي كضوء شاحب ينزف فيّ تراثاً من الوجع والاستكانات المؤلمة.