استبدال النظام العالمي مسألة وقت… روسيا والصين يحدّدان مستقبل العالم
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:
لا شك أن مثل هذا الحديث لم يكن قابلاً للإطلاق قبل بضع سنوات، لأنه حتى لو صحّت التكهّنات حول انهيار مرتقب للنظام العالمي القائم، فإن تحديد الفترة الزمنية التي سيستغرقها هذا الانهيار لم يكن بالإمكان على اعتبار أن النظام القائم كان قادراً على التحكم بدرجة هذا الانهيار أو التقليل من سرعته.
أما الآن، وقد فعلت العقوبات الغربية المفروضة من جانب واحد على الاتحاد الروسي فعلاً عكسياً وأدّت فيما أدّت إلى مشكلات اقتصادية في الدول الغربية مجتمعة لا يمكن تجاوزها على المدى الطويل، وباتت تهدّد بانهيار هذه الاقتصادات واحداً تلو الآخر، ولم يخلُ اقتصاد غربي من منعكسات سلبية لها، فإن الحديث بات قابلاً للتحقيق بالقياس إلى المعطيات الواضحة التي يتم البناء عليها، فالعقوبات تم فرضها أساساً على المنتج الأساسي الذي يعدّ محرّكاً للنموّ في الدول الصناعية الغربية وهو النفط والغاز، الأمر الذي أدّى إلى تحوّل روسيا سريعاً إلى التعامل مع الصين، وبدل أن يتمكّن الغرب من التأثير في العلاقة المتنامية بين روسيا والصين سرّع التكامل الاقتصادي بين البلدين على نحو قد يؤدّي إلى حرب طاقة في العالم، على خلفية توجّه الصادرات الروسية من النفط والغاز إلى الصين وآسيا بدلاً من أوروبا.
فقد ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أنه في الأشهر المقبلة ستضطرّ أوروبا للتنافس مع آسيا على الغاز المسال الروسي، مشيرة إلى أن حرب الطاقة في أوروبا ستؤدّي إلى أسعار عالية وتخلق اضطراباتٍ اجتماعية، وأن الجبهة الثانية في المعركة من أجل أوكرانيا قد انفتحت، وهي حرب الطاقة في أوروبا.
هذا الأمر، حسب الصحيفة، سيجلب المصاعب إلى الاقتصاد الأوروبي، ويخلق اضطراباً اجتماعياً، وبالتالي سيوصل الأحزاب الشعبوية التي ستغيّر النخب السياسية في أوروبا إلى السلطة، وبالتالي تفكيك التحالف الغربي.
وفي المحصلة ستنشأ عن ذلك حرب طاقة بين آسيا الباردة في الشتاء التي توجّهت إليها صادرات الغاز الروسي نهائياً بعد العقوبات، وأوروبا التي تعتمد بشكل رئيس على الغاز الروسي المسال، بعد أن انخفضت الإمدادات الروسية عبر نورد ستريم (السيل الشمالي-1) وعبر الترانزيت من خلال أوكرانيا بشكل كبير، وتوقفت تماماً عبر خط يامال-أوروبا.
فأوروبا الآن أمام مشكلة خطيرة بدأت تشعر بها مع اقتراب فصل الشتاء، حيث قالت وسائل إعلام ألمانية: إن المتقاعدين الألمان بدؤوا بالتحضّر للذهاب إلى بلدان أخرى دافئة، لتجنّب دفع تكاليف التدفئة الباهظة في الشتاء في بلادهم، وبالتالي سيتعيّن على ألمانيا الاستغناء عن مبالغ كبيرة ينفقها المتقاعدون الألمان في وجهاتهم السياحية المستحدثة التي ستكون بديلاً عن العيش في بلادهم مثل تونس ومصر وجزر الكناري وغيرها.
هذا فقط على مستوى ارتفاع أسعار وقود التدفئة، فكيف إذا كان الأمر على مستوى المشكلات الكثيرة التي خلّفتها العقوبات الغربية على موسكو، من ارتفاع في معدّلات التضخم والبطالة، وظهور للمشكلات الاجتماعية الأخرى على السطح من تفاوت طبقي وانتشار للعنف والسلاح والفوضى، وهي أمور يمكن أن تؤدّي إلى اضطرابات اجتماعية ربما لا تقف عند حدود جلب أحزاب شعبوية إلى السلطة، بل تتجاوزها إلى حروب وصراعاتٍ تؤدّي إلى عودة الصراعات القومية والدينية في القارة العجوز.
أما على المستوى المالي فقد أصبح تعزيز الروبل الروسي مكانته مقابل اليورو يشكل “صداعاً” بالنسبة للبنوك الغربية، حسب وكالة بلومبيرغ التي أشارت إلى أن الشركات الأجنبية التي غادرت روسيا، تتكبّد خسائر هائلة، في الوقت الذي تتمتع فيه الشركات والبنوك التي استمرّت في العمل داخل الأراضي الروسية بأرباح غير مسبوقة في تاريخها، حيث نقلت عن المدير التنفيذي لمصرف “Raiffeisen Bank” النمساوي، يوغان شتروبل، قوله: إن فوائد بنكه تتزايد في ضوء تعزيز الروبل.
وكتبت مجلة “Economist” سابقاً أن الاقتصاد الروسي يحافظ على استقراره على الرغم من “العقوبات التي لا سابق لها” المفروضة عليه، بينما اعترف مفوّض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، بأن الروبل الروسي يتغلب على العقوبات الأوروبية بشكل جيد.
ولكنّ الخبر اللافت في هذا الشأن ما صرّح به مدير معهد الصين وآسيا الحديثة بأكاديمية العلوم الروسية، كيريل بابايف، من أن مستقبل الاقتصاد الأوراسي، إن لم يكن العالم بأسره، يعتمد على كيفية بناء العلاقات بين روسيا والصين اليوم.
وأكد بابايف أن مستوى العلاقات التجارية الاقتصادية الروسية الصينية لا يزال متخلّفاً عن مستوى العلاقات السياسية بين البلدين، مشيراً إلى ضرورة إصلاح هذا الخلل في التوازن، لأن الظروف الحالية المتمثلة بالاستهداف الغربي لكل من البلدين يجب أن تدفعهما إلى مزيد من التقارب، فالفرصة الآن أصبحت مواتية لتخلّي كلا البلدين عن علاقاته الاقتصادية المسمومة مع العالم الغربي واستبدالها بعلاقات اقتصادية متينة مع حليفه القوي، وعلى هذا النحو يكون مستقبل الاقتصاد الأوراسي كله، بل العالم، متوقفاً على العلاقات بين روسيا والصين دون مبالغة.
وإن كان الاستفزاز الأمريكي الأخير للصين عبر الزيارة التي أجرتها رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى جزيرة تايوان يُراد منه ابتزاز الصين حتى تتفاوض مع واشنطن على مسألة دعمها لروسيا في حربها الحالية مع الغرب، وعدم تمكين روسيا من الهروب من العقوبات المفروضة عليها باتجاه الصين، فإن هذا الأمر يبدو أنه أدّى أيضاً إلى نتائج عكسية في هذا الإطار، فالتحالف الروسي الصيني بلغ مراحل متقدّمة، والطرفان الروسي والصيني يسعيان معاً إلى استبدال النظام العالمي القائم بنظام جديد متعدّد الأقطاب، والمسألة فقط باتت مسألة وقت ولن تطول.
لذلك تهتم روسيا والصين اليوم بأقصى درجة ممكنة ببناء الهيئات التجارية والمالية الدولية الجديدة حتى تتحرّر التجارة والمدفوعات من ضغوط الغرب، وإذا تمكّنتا من ذلك فقد تنضم إلى الهيئات الجديدة فيما بعد بلدان آسيا الوسطى والجنوبية وبلدان منظمة شنغهاي للتعاون وبريكس، وهذه الدول تتحدّث منذ زمن طويل عن حتمية إيجاد بديل للنظام المالي القائم ونظام التجارة الدولية الذي تستخدم فيه واشنطن بالتعاون مع حلفائها أكثر فأكثر أساليب الضغط غير الشرعي.