استثمار غير اقتصادي في الظروف الحالية؟!
عبد اللطيف عباس شعبان
درج في السنوات الأخيرة إحداث مناطق صناعية في العديد من المدن والمناطق والبلديات، وتم رصد مبالغ مالية كبيرة لتجهيزها، وقد امتدت المدة التنفيذية عن المدة العقدية أشهراً وسنوات للعديد منها، ما تسبب بزيادة الكلفة الفعلية كثيراً عن الكلفة التقديرية، كذلك ما تم تجهيزه بشكل أولي في هذه المنطقة الصناعية أو تلك لا يزال يحتاج لتجهيزات تكميلية أخرى لازمة عالية الكلفة من صرف صحي، وشبكة مياه، وتمديدات كهربائية وهاتفية، وإكساء طرق، وتجهيز أطاريف لها كي يتمكن المكتتبون من التفكير بالبدء بتشييد واستثمار المقاسم التي اكتتبوا عليها، علماً أننا لا نقصد المدن الصناعية الكبرى (عدرا – الشيخ نجار – حسياء).
واقع الحال يُظهر أن المبالغ المالية الكبيرة التي تم صرفها على التجهيز الأولي لهذه المناطق لم تؤت أكلها، فما تم إنفاقه من أموال للتأسيس الأولي لها يتطلب رصد أضعافه مجدداً للإكمال، وليس من السهولة توفير الأرصدة المالية الجديدة لهذه الغاية، وفيما إذا توفرت بعض هذه الأرصدة المالية لمنطقة وأخرى فستطول المدة التي يتم فيها تأمين كامل المخصصات اللازمة لتحقيق الإنجاز على المستوى الأكمل والمطلوب، ولا يغيب عن البال أن أرض المنطقة الصناعية أو جزءاً منها كان أرضاً زراعية مشجرة أو بعلية خرجت من الإنتاج الزراعي كلياً، ومثلها الأرض الحراجية، وحدث مثل ذلك في أكثر من محافظة.
في حال تحقق إنجاز منطقة صناعية بشكل يمكّن الصناعيين المكتتبين من الاستعداد للمباشرة بتشييد مقاسمهم، فسيُظهر واقع الحال ضعف إقدام الصناعيين على ذلك، إلا قلة قليلة منهم، للبدء بتشييد مقاسمهم، نظراً للكلفة المادية الكبيرة المطلوبة بسبب الارتفاع الكبير في أسعار مواد البناء، عدا عن صعوبات تأمين بعضها، خاصة أن أغلب – وربما جميع – الصناعيين الحاليين يمارسون عملهم في منشآتهم الصناعية الموجودة، حيث هي حالياً منذ سنوات داخل الأحياء السكنية، وعلى أطرافها، وعلى جوانب الطرق المركزية والفرعية، ومنشآتهم معروفة ومشهورة، ولا مصلحة لهم حالياً بتغييرها، ومن غير المنطقي إكراههم على الانتقال إلى المنطقة الصناعية في ظل عدم قدرتهم المالية.
إن إلزام الصناعيين في مناطقهم الحالية بنقلها للمناطق الصناعية، وعدم قدرتهم على تنفيذ ذلك حالياً إذا ما أرغموا على الانتقال ولم يستطيعوا، يعني تجميد مليارات الليرات دون أي استثمار إنتاجي لها، على غرار المليارات الأخرى التي تم تخصيصها للمشاريع الخدمية في وزارة الإدارة المحلية، وبقية الوزارات، والتي كان بالإمكان تأجيل العديد منها، أو الاكتفاء بأقل من الرصيد الذي تم تخصيصه لها لصالح مشاريع إنتاجية.
إن عزوف الحكومة الحالية والحكومات التي سبقتها عن إصلاح المزيد من المنشآت الإنتاجية المتعطلة كلياً، أو المتعثرة جزئياً منذ سنوات، رغم الكثير من الوعود التي تمت بهذا الشأن، وقصورها أو تقصيرها عن إحداث الجديد من المشاريع الاستثمارية المنتجة للسلع الاستهلاكية والوسيطة والإنتاجية، محط استغراب كبير!.
الأغرب من ذلك أن سياسة الحكومة العازفة جزئياً أو بشكل شبه كلي عن الاستثمار الإنتاجي رافقها ضعف الاستثمارات الإنتاجية في القطاع الخاص والأهلي نتيجة المنعكسات السلبية لسياسة الحكومات المتتابعة في رفع الأسعار، ما تسبب بالحد من قدرة الادخار عند نسبة كبيرة من الأسر نظراً لحاجتهم الماسة لتوجيه كامل دخلهم للاستهلاك، والمؤسف أن نسبة كبيرة من الأسر حافظت على كمية استهلاكها في كثير من المواد رغم الارتفاع الكبير بالأسعار، ما حد من قدرتها على الاستثمار، بما في ذلك القدرة على تأسيس مسكن لأبنائها، أو تأسيس مستلزمات ومعدات فرصة عمل، وتحديداً تلك الأسر الفقيرة التي تخرّج أبناؤها في كليات الصيدلة والطب، ولا تملك الملايين اللازمة لتأسيس عيادات لهم، فالسياسة الاقتصادية للحكومات المتتابعة حدت من الاستثمار العام والاستثمار الخاص، أما أولئك القلة الذين يملكون المليارات فهم أكثر اتجاهاً إلى الاستثمارات الريعية: (السياحية- الفندقية- المطاعم..)، مقابل قلة من أولئك الراغبين بالاستثمارات الإنتاجية.
المدير العام لهيئة الاستثمار السورية يقول: “إن مؤشرات نجاح قانون الاستثمار الجديد بدأت تقطف ثمارها باستقطاب مشاريع جديدة ونوعية – منذ صدور قانون الاستثمار – بلغ عددها 37 مشروعاً بقيمة تريليون و427 مليار ليرة سورية، تؤمن 3534 فرصة عمل، موضحاً أن هناك 5 مشاريع بدأت الإنتاج الفعلي”، لكن الأمل ألا يبقى هذا خبراً، وأن يتم إنجاز هذه المشاريع فعلاً، لا أن يتعثر بعضها لأسباب، أو أن يهرب بعض أصحابها بالمليارات المخصصة كما حدث مع آخرين، وحبذا أن نسمع عن هكذا مشاريع في القطاع العام، وأن يسفر نشاط القطاع العام عن استثمار آبار الغاز العديدة التي سمعنا باكتشافها في المناطق الآمنة منذ سنوات، والحد من التقنين المديد للكهرباء بحجة عدم وجود غاز.
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية