“عيون كبيرة”.. قصة حقيقية لرسّامة غامرت بشهرتها
نجوى صليبه
في الثّانية من عمرها تُصاب “بيجي دوريس هوكينز 1927″، أو المعروفة بـ “مارغريت كين”، بالتهاب الخُشّاء في الأذن، ويتضرّر غشاء الطّبل. وكردّ فعلٍ طبيعي وتعويضاً للنّقص في حاسة السّمع، صارت حاسّة النّظر لديها بشكلٍ مضاعفٍ، وصارت من خلال التّحديق بعيون النّاس الذين تقابلهم تفهم ما يدور في خلدهم وترسمهم بشكل مختلف وهي في عمر صغير، لتلتحق وهي في سن العاشرة بدروس الرّسم في أحد المعاهد، وتُعرف حينها بالفتاة التي ترسم عيوناً كبيرةً.
وفي سن الثّامنة عشرة تلتحق “مارغريت” بمدرسة للتّصميم الفنّي والطّباعة، وتتعلم الرسم على الملابس وأسرّة الأطفال، لتبدأ بعدها مسيرتها الفنية التي عرفت بـ “العيون الكبيرة” لطالما كانت تؤمن بأنّ العيون هي مرآة الإنسان التي تعكس داخله بكلّ مصداقية، وهي التي صرّحت مراراً: الأطفال لديهم عيون كبيرة، ولأنّ العيون هي الجزء الأكثر تعبيراً في الوجه، كبرت أكثر وأكثر في لوحاتي، ولأنّ حياتها لم تكن بتلك السّهولة وفيها الكثير من الدّراما والتّراجيديا كانت مادّة دسمة للسّينما الأمريكية، فكان فيلم السّيرة الذاتية “عيون كبيرة Big Eyes ” الذي كتبه كلّ من سكوت إلكسندر ولاري كاراسزويسكي، وأخرجه تيم برتون عام 2014، وأدّى شخصيتها الممثلة “إيمي آدامز”، ويروي مسيرتها الفنية والاجتماعية التي لم تكن أيضاً بالحبّ الذي تسمو فيه روحها وإنسانيتها، فقد توفّي زوجها الأوّل “فرانك ريتشارد أولبريتش” ولها منه ابنة، ثمّ تتعرّف على الرسّام والتر كين -الممثل كريستوف فالتز- وتقبل الزّواج منه في عام 1955.
يعيش الزّوجان رومانسيةً قصيرةً وبعدها يبدأ “كين” ببيع لوحات “مارغريت” التي توقّع باسمه بحجة أنّها غير قادرة على تسويق أعمالها، ولاسيّما أنّ المجتمع الأميركي في تلك الفترة -فترة الخمسينيات من القرن الماضي- لم يكن ليتقبّل تميّز المرأة في هذا المجال وغيره، باختصار لقد سرق عملها وجهدها ونسبه إليه واكتسب شهرةً واسعةً، كما سرق سابقاً لوحات فنّانين آخرين وعرضها على الجدران والشّوارع، وهذا ما تكتشفه متأخرةً، فتطلب الطّلاق لأنّها لم تعد تحتمل سرقة جهدها طوال عمرها ولا سكوتها أو رضوخها له ومن ثّم انعزالها عن الجميع خوفاً من افتضاح أمرها وهي التي قطعت وعداً له بإخفاء الحقيقة، كما أنّها لم تعد تحتمل الكذب والبقاء في الظلّ وهو يسرح ويمرح بالمجد والشّهرة والإطراء.
ولأنّ طمع “كين” يبلغ ما يبلغه، يفاوضها على طلاقها، ويطلب منها أن ترسم له 100 لوحة، وهنا تكون نقطة الانطلاق لإنهاء مأساتها بفضحه في الصّحافة والاحتكام إلى القضاء، حيث يطلب القاضي أن يرسم كلّ منهما لوحةً بعيونٍ كبيرة، وبأقلّ من ساعة تكمل “مارغريت” رسمها فهي العليمة بأبنائها، بينما يعتذر “كين” عن ذلك، متذرّعاً بألم أصاب ذراعه، فيصدر القاضي حكمه لمصلحتها وتحصل على الطّلاق وتستعيد ذاتها وحقوقها، كما يقضي الحكم بمنحها تعويضاَ مالياً يبلغ أربعة ملايين دولار، لكن محكمة الاستئناف الفيدرالية آنذاك تؤيّد حكم التّشهير وتلغي التّعويض، وهو الجانب الذي لم تكترث له فحقّها المعنوي كان أولوية لها بعد أكثر من عشر سنوات من الظّلم والظّلام.
تبتسم الحياة لـ”مارغريت” وتنتقل للعيش في هاواي، وتتزوج مرّة أخرى من الكاتب الرّياضي دان ماكغواير في عام 1970، وتذكر فضله دائماً بالتّخلص من خوفها، وبمنحها سعادةً تنعكس إيجابياً على فنّها، إذ تترك العيون الحزينة التي رسمتها وهي في ظلّ “والتر” وتتجه إلى رسم لوحات أكثر سعادةً، معبّرة عن ذلك بقولها: “العيون التي أرسمها على أطفالي هي تعبير عن أعمق مشاعري.. العيون نوافذ الرّوح”.
لم يكن هذا الفيلم بمنزلة تحدّ للممثلين الذين تمنّوا أن يكونوا قد أنجزوا العمل على أتمّ وجه ولاسيّما أنّهم قابلوا “مارغريت” وتعرّفوا عليها عن قرب، بل كان تحدّياً كبيراً بالنّسبة للمخرج الذي عُرف وتَميّز بإخراج أفلام الفنتازيا والكوميديا والخيال العلمي والأكشن، ولعلّ أشهرها “الرّجل الوطواط” و”إليس في بلاد العجائب”، لكنّه اجتاز التّحدي بدرجة عالية من خلال قدرته على ربط عناصر القصّة بطريقة محكمة، وهو الذي صرّح بأنّ الفيلم كان أشبه بفيلم الرّعب، فيه الحب والخوف والكوميديا. لقد كان مخلصاً لجمال الّلون والّلوحة والرّوح وحتّى صرخة العين الحزينة والسّعيدة التي كانت تطلقها “مارغريت”، وموفقاً في اختيار الشّخصيات ودقيقاً في تقديمها بشفافية، فقد أظهر ضعف “مارغريت” واستسلامها في مرحلةٍ ما، كذلك الأمر بالنّسبة لـ”كين” قدّمه شخصاً يحبّ الفنّ لكنّه لا يمتلك المهارة أو القدرة بل يتمتّع بأسلوب تسويقي ناجح، ليحقق بذلك متعةً بصريةً مميزةً مكملة للسّيناريو الذي حبكه الكاتبان بصدق ودقّة أيضاً، ولاسيمّا أنّهما التقيا بـ”مارغريت” مرّات عدّة ووافقت على ما كتباه، كما وافقت على حقوق الفيلم الذي استغرق أحد عشر عاماً حتى رأى النّور، وقبلت الظّهور بأحد مشاهده تعبيراً عن سعادتها بتحويل مسيرتها إلى فيلم سينمائي.
يُذكر أنّ الفيلم ترشّح لجائزتي “بافتا” وجائزة اختيار النّقاد لأفضل أغنية فيلم، ونالت الممثلة إيمي جائزة مهرجان كابري لأفضل ممثلة وجائزة كولدن كلوب عن أدائها.