أعمار معنوية لعمر مادي واحد
غالية خوجة
لا تدع اليأس والإحباط والضغوط والظروف فاعلاً أساسياً في حياتك، بل كن أنت الفاعل الذي يديرها، واجعلها أملاً جديداً للحياة، وانتبه لأعمارك المحزومة في عمر واحد، ومنها عمرك النفسي الذي يعكس أشعته على ملامحك وقلبك وجسدك، وبالتالي، يؤثر في عمرك الروحي والعقلي، وكلاهما توءم يتناوبان الفاعلية على إدارة أعمارك الأخرى، لأن عمر الإنسان ليس فيزيولوجياً زمنياً فقط، محسوباً منذ ولادته لوفاته بالثواني والدقائق والساعات والأيام والسنوات، بل هو عمر متنوع داخلنا، لذلك، لابد من أن نحزم أعمارنا كما تحزم النجوم أشعتها لتنطلق مشرقة مع كل يوم جديد، ولتجعلنا نسأل أنفسنا: ما الأفعال الطيبة التي سأقوم بها في هذا اليوم؟ وماذا سأضيف لعمري بعد موتي؟ وأي خير مازال ينتظرني لأقوم به، ويكون رسالتي الصغيرة لهذا العالم الإنساني؟
تتداخل أعمارنا المعنوية مع عمرنا المادي، وتشكّلنا مثل قطعة فسيفسائية تعزفنا كما تعزف أشعة الشمس والقمر حضورها وهي تتخلل الزجاج المعشّق بصفاء وهدوء وطمأنينة، لنرى، وفي لحظة تأمّل بصيرة، كيف يطفو وعينا النفسي بالتدريج كما تطفو الغيوم في السماء، وتطفو الموسيقا في القلوب ليكون عمراً نفسياً مشتبكاً مع عمر الوعي، فتتلون أفكارنا، ويكبر محيط الطاقة، ويتسع مثل الكون الفسيح، ويجذب إليه العالم المحيط، ويتفتّح شلالات تتحرك من ذُرا الروح إلى عُمق العقل الباطن، وترشق نبضاتنا بوعي جديد.
وفي هذا المدار الأشبه بمدارات الطاقة الكهربائية المغناطيسية الخاصة بكل إنسان، تتلوّن الطاقة المعنوية، تنمو وتزهر، وتظل متفتّحة بالصفاء والشفافية والمحبة والعطاء، وتستمر تجربتنا بالنضوج، بدءاً من المرحلة الجنينية وما تحمله من لغة المورثات، عبوراً بمراحلها اللاحقة من طفولة وشباب ويفاعة، وصولاً إلى مرحلة الحكمة التي عادة ما تبدأ مع بلوغنا الأربعين عاماً من العمر الفيزيائي الزمني.
وللحكمة عمرها المعنوي المضاف إلى أعمارنا المختلفة المتنوعة التي تشكّل في نهاية المطاف أطياف الآثار التي عملناها وقلناها وتركناها في نفوس الآخرين، فإمّا أن تمكث في الأرض وتنفع الناس، أو أن تذهب كالزبد جفاء.
ولكل إنسان رسالته في هذه الحياة، ولا بد أن يكملها بضمير محب، وهذا عمر معنوي آخر، نزرعه في اللحظات الشفافة، ونسقيه من روحنا كي لا يذبل.
لقد أثبت علم النفس أن للإنسان عمراً بيولوجياً وأعماراً أخرى روحية وعقلية تقاس بمعدلات تقريبية من خلال العديد من برامج قياس الذكاء والإدراك والوعي، وهي ليست إلا نتائج تجريبية، لأنها، مثلاً، لو طبقت على أديسون، فلربما وجدنا روحه مازالت طفلة.
لكن، لا بأس من التجريب العلمي للكشف عن العمر الذاتي الجواني المحزوم بعدة أعمار ترشدنا إليها ملامحنا الشمولية، لأنها تصبح المرايا المتعاكسة التي نستقرئ من خلالها أنفسنا لنتعرف إليها، وهذا يعيدنا إلى الحكمة القديمة التي كانت مكتوبة على بوابة “دلفي”: “اعرف نفسك”، والتي أكملها: “من عرف نفسه عرف الله، ومن عرف الله عرف ما له وما عليه”.
وهكذا، تتمازج أعمارنا في عمر واحد يخادعنا بالأبدية، رغم أن الكل إلى فناء، ومنها الأبدية، ولذلك، لا بد من زوال العمر المادي البيولوجي، بينما أعمارنا المعنوية الكثيرة فلا تزول كما يزول الجسم، بل تستمر كخير مضيء، أو كشرّ قبيح، وللإنسان أن يختار بين هذين “النجدين”.
وكم من فكرة جعلت صاحبها حياً عبر الأجيال، وكم من مواقف إنسانية شفافة استمرت بقيمتها عبر الأزمنة في كافة بقاع الأرض، وكم من بيت قصيد انتشر أسرع من الضوء في العالم، والجميل أن يكون كل منا هذه الفكرة، وذاك الموقف، وبيت القصيد.