دراساتصحيفة البعث

كيسنجر.. وراء الأكمة ما وراءها

علي اليوسف

في كلّ مرة يثير وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، سجالاً واسعاً بين الأوساط السياسية بطروحاته وأفكاره، والتي ربما تكون موجهة لأغراض استراتيجية تريد الولايات المتحدة إيصالها للعالم، أو ربما تكون نابعة من قراءة حقيقية للمتبدلات على المستوى العالمي.

قبل يومين، قال في لقاء مع صحيفة “وول ستريت جورنال”: “نحن على وشك الدخول في حرب مع روسيا والصين بشأن قضايا نحن مسؤولون جزئياً عن ظهورها، دون أي يكون لدينا أية فكرة عن كيفية إنهائها، أو ما الذي ستؤدي إليه”.

هذا التصريح، لاشك، رسالة بأن اختلال التوازن الدولي أصبح واضحاً بشكل كبير، وحتى خطير على المستوى العالمي، وربما يكون الهدف من الرسالة تحذير الصين وروسيا من الاقتراب من الخطوط الحمراء التي وضعتها الولايات المتحدة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. في المقلب الآخر، ربما تكون رسالة تنبيه للولايات المتحدة بأن الأمور دخلت حيّز الخطر، ولابد من اتخاذ إجراءات عاجلة بغضّ النظر عن ماهيتها. وما يدلّ على هذا التنبيه هو ما قاله في اللقاء مع “وول ستريت جورنال”: “ليس لدينا أية فكرة عن كيفية إنهائها، أو ما الذي ستؤدي إليه”، أي أن الرجل يريد إيصال رسائل التهديد دون الأخذ في الاعتبار ما قد ستؤدي إليه الأمور.

قبل أشهر، أثار كيسنجر جدلاً واسعاً في خطاب أدلى به أمام “المنتدى الاقتصادي العالمي” في دافوس، حين اقترح معاملة أوكرانيا في أعقاب الحرب كعضو في “الناتو”، سواء أكان ذلك رسمياً أم لا. أما ما يتعلق بمسألة تايوان، فقد ألمح إلى أن الولايات المتحدة والصين تناوران نحو أزمة، وينصح واشنطن بالثبات، وقال: “إن السياسة التي نفذها كلا الحزبين أنتجت وسمحت بتقدم تايوان إلى كيان ديمقراطي مستقل، وحافظت على السلام بين الصين والولايات المتحدة لمدة 50 عاماً، ينبغي أن نكون حذرين للغاية في اتخاذ تدابير يبدو أنها تغيّر هذا الهيكل الأساسي”.

صحيح أن كيسنجر اقترب من المئوية، إلا أنه لم يفقد نظرته الفكرية التي جعلته مختلفاً عن أقرانه في المجال الأكاديمي وممارسي السياسة، كما لم يفقد قدرته على استفزاز السياسيين، والليبراليين، والتقدميين، حيث يرى أن أمريكا منقسمة اليوم أكثر مما كانت عليه في وقت فيتنام، وبالتالي فإن ردم الخلافات الداخلية يكون: إما أن ينهار المجتمع الذي لا يستطيع القيام بمهامه، أو التعويل على عدو خارجي لحلّ المأزق، بحسب ما قاله في لقاء مع صحيفة “صاندي تايمز” تموز الماضي.

وحتى في كلّ مناسبة، نراه يؤكد أن التحالف الصحيح الذي يعكس التعاون الأوروبي- الأمريكي، هو التحالف المناسب للمواجهة، ولكن من المهمّ الاعتراف بأن هناك قضايا كبيرة ستظهر فيما يتعلق بالعلاقة مع الشرق الأوسط وآسيا والعلاقة مع أوروبا وأمريكا. وها هي تظهر بالفعل بعد استفزاز الصين، حيث يرى كيسنجر أن العالم “على سفوح الحرب الباردة” أو “في الممرات الجبلية للحرب الباردة”، لأن كلا البلدين لديهما اقتصاديات متوازية وهو وضع لم يكن أثناء الحرب الباردة، كما أن انتظار تحول الصين إلى بلد غربي لم يعد استراتيجية معقولة.

لا شك أن كيسنجر يتمتّع بنفوذ في الإدارة الأمريكيّة، والرئيس جو بايدن تحديداً، بحكم خبرته الطويلة في الشؤون الدولية والعلاقات بين الشرق والغرب. وهذا الثعلب الذي كان يقف خلف الإنجاز الدبلوماسي الأمريكي الأضخم في زمن الرئيس نيكسون والمتمثل في احتواء الصين، وإبعادها عن الاتحاد السوفييتي، حذّر الرئيس بايدن من أي تقارب روسي صيني، لما يمكن أن يشكله ذلك من أخطار على الولايات المتحدة وهيمنتها على زعامة العالم، وها هو الرئيس بايدن يأخذ بهذه النصيحة عبر استفزاز روسيا في أوكرانيا، ومحاولة حصار الصين في تايوان.

لكن رغم هذه النصيحة، لم تتعلّم الإدارات الأمريكية من الدروس، فالقوات الروسية تتقدم على الأرض، ويزداد اقتصادها قوة وصلابة. ومع كلّ ذلك، يقول بايدن إنه مستعد للدفاع عن تايوان في أحدث فصل من “التّكاذب” المكشوف.