استراتيجية تنضح بشعارات فارغة!
عناية ناصر
في المحطة الأولى من جولته الأفريقية التي انتهت قبل أيام، ألقى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين كلمة في جامعة بريتوريا حول الاستراتيجية الأمريكية لأفريقيا جنوب الصحراء. وخلال المحاضرة، قال بلينكين: “تكمن جذور الاستراتيجية الأمريكية في الاعتراف بأن أفريقيا جنوب الصحراء هي قوة جيوسياسية رئيسية، قوة شكلت ماضينا، وتشكل حاضرنا وستشكل مستقبلنا”.
من الطبيعي أن الكلام الذي جاء به بلينيكن لا يعدو هرطقة سياسية، لأن الحقيقة هي أن الاستراتيجية الأمريكية تهدف إلى استخدام أفريقيا كبيدق لتلبية المصالح الاستراتيجية الأمريكية، واتباع الهيمنة الأمريكية بحجة تعزيز قدرة أفريقيا على حلّ المشكلات العالمية.
وبدلاً من التركيز على أفريقيا، تبذل استراتيجية الولايات المتحدة قصارى جهدها لتشويه سمعة الصين، كما يكمن وراء هذه الاستراتيجية اعتقاد الولايات المتحدة بأن الصين ترى في أفريقيا “ساحة مهمة لتحدي ما يُسمّى بالنظام الدولي القائم على القواعد”، حيث تشير واشنطن بأصابع الاتهام إلى الصين، عندما تواجه ممارساتها السياسية تجاه أفريقيا المشكلات. وتجدرُ الإشارة إلى أنه في السنوات الأخيرة، أضرّت سلسلة من العمليات الأمريكية في أفريقيا بمصالح دول المنطقة بشكل خطير، مما أدى إلى تراجع حاد في المصداقية الاستراتيجية للولايات المتحدة في القارة.
إن استراتيجية الولايات المتحدة لأفريقيا تخدم مصالح الولايات المتحدة الخاصة، وتتجاهل احتياجات وحقائق أفريقيا، وهناك في الاستراتيجية الجديدة، إشارة رمزية واحدة فقط لأجندة 2063 والتي تعتبر أهم وثيقة للتنمية الأفريقية، وأجندة التنمية المستدامة 2030، بينما كانت الإشارة الحقيقية التي أخفاها بلينيكن هي استراتيجية “أمريكا أولاً”. أي ضمان بقاء المنطقة مفتوحة ومتاحة للجميع، وأن الحكومات والشعوب قادرون على اتخاذ خياراتهم السياسية الخاصة، بما يتفق مع الالتزامات الدولية. إن المنطق وراء هذا الهدف الأول هو أن أفريقيا محتلة حالياً من قبل قوى أخرى، وأن الولايات المتحدة مهمّشة. لذلك، تطالب أفريقيا بمزيد من الانفتاح حتى تتاح لها فرصة السعي للهيمنة. أما الهدف الثاني، حسب زعمها، فهو تقديم مكاسب ديمقراطية وأمنية لأفريقيا.
تنصّ الإستراتيجية الجديدة على أنه يمكن للولايات المتحدة أن تزوّد الأفارقة بخيارات ديمقراطية وآمنة عندما يقررون مستقبلهم، وبذلك تكون الولايات المتحدة قد صوّرت نفسها على أنها راعية الديمقراطية والأمن في أفريقيا، بينما دول أخرى تحمل نوايا سيئة تجاه أفريقيا. لكن حقيقة الأمر هي أنه منذ انتشار وباء كوفيد-19، ارتفع العنف والإرهاب في منطقة الساحل، مقابل تراجع الولايات المتحدة والغرب. كما تدعو الاستراتيجية الجديدة إلى شراكة بين الولايات المتحدة وأفريقيا في القرن الحادي والعشرين، لكن يبدو أن الولايات المتحدة لا تزال غارقة في الحلم الإمبراطوري!.
أخذت الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لأفريقيا بعين الاعتبار الانتقادات الموجّهة من الأوساط الأكاديمية والسياسية حول سياسات الولايات المتحدة السابقة تجاه القارة. لذلك، خاصةً وأنه بات انحرافاً عن التفكير القديم في تحديد سياسة الولايات المتحدة تجاه أفريقيا، بناءً على قضايا محدّدة، والتي كان ينظر إليها من منظور خدمة الإستراتيجية العالمية للولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن ما تريده أفريقيا هو ألا تكون مشاركاً جيوستراتيجياً مهماً في الإستراتيجية الأمريكية التي تريدها واشنطن.
إن الأهمية الاستراتيجية التي تريدها أفريقيا هي تعزيز تمثيلها وصوتها في النظام الدولي، وإصلاح النظام الدولي غير المعقول والظالم، والتحوّل من وضعها المهمش في الاقتصاد العالمي الرأسمالي إلى الحصول على الحق في التنمية على قدم المساواة مع الآخرين. ومع ذلك، فإن هذه الأهداف تتعارض مع مصالح الهيمنة التي تريد الولايات المتحدة الحفاظ عليها، لأن ما تريده الولايات المتحدة هو تهميش العدد الهائل من البلدان النامية في العالم حتى تتمكن من الاحتفاظ بالاحتكار والهيمنة.
إن حملة الولايات المتحدة المسعورة ضد تنمية الصين هي مثال نموذجي على ذلك، حيث إن أفريقيا تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية، لكن من الواضح أن القارة لن تكون كما تريدها أمريكا. وقد ظهر ذلك في قضية الحرب الروسية الأوكرانية، فقد أزعج موقف أفريقيا الولايات المتحدة، وأفلست رغبة الولايات المتحدة في هزيمة روسيا في الرأي العام الدولي في أفريقيا.
أفريقيا هي قارة الأفارقة، ويجب على العالم أن يعي تماماً ويحترم أفريقيا لكسب ثقة القارة، ومن غير المعروف مدى تبني آراء الأفارقة في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة الخاصة بأفريقيا والمكونة من 17 صفحة، إذ أن الوثيقة تنضح بشعارات فارغة بعيدة كل البعد عن واقع أفريقيا!.