تحقيقاتصحيفة البعث

السويداء تستعيد تراث الأجداد على وقع تحضير المونة رغم غلاء مستلزماتها

في هذه الأيام قد لا يخلو بيت ريفي في السويداء من وجود “ورشة” لعمل نوع أو أكثر من أنواع المونة “كربّ البندورة أو الكشك أو بعض المجففات من زبيب أو تين..”، فهذه الفترة من السنة هي الأنسب لتأمين مونة الشتاء رغم غلاء المواد والمستلزمات.

المشاهد ذاتها تعكسها أسواق المدينة، إذ أصبح من المألوف أن تشاهد في هذه الفترة من السنة أكياس الفليفلة الحمراء بكميات كبيرة في معظم الأسواق، أو أن تسترق السمع إلى حديث رجلين عن ارتباكهم في اختيار نوع الباذنجان الأنسب لتحضير المكدوس. وكذلك أكياس الملوخية وغيرها الكثير من أكياس المونة لمواد متنوعة.

الواقع الاقتصادي والمعيشي يفرض على الأسر الريفية استثمار كلّ ما هو متاح في محاولة للتأقلم مع التغيّرات التي طرأت على نمط حياة تلك الأسر في ظل الأزمة الاقتصادية التي تظهر تداعياتها أكثر فأكثر مع مرور الوقت، فقد اضطر الكثير من أبناء المجتمع إلى التخلي عن أمور كثيرة شكلت أساسيات لهم في مرحلة سابقة، وتبيّن لهم، في الظروف الحالية، أن الأوضاع الاقتصادية المتردية فرضت عليهم بدائل وظواهر لم يعتادوا عليها سابقاً، انطلاقاً من ذلك، يسعى السوريون إلى البحث عن سبل جديدة للعيش لتأمين مصدر رزق بما يتلاءم مع ظروفهم الحالية التي ازدادت صعوبة.

النار والحطب

أسرة أبو مازن أتقنت فن التعامل مع الحاضر بذكاء، فأثناء زيارة لبيتها شاهدنا فضلات تقليم أشجار التفاح والعنب حاضرة بجانب الموقدة متعددة الاستعمالات، فهي لطهي الطعام في حالات فقدان الغاز وكذلك لتسخين الحليب والماء، أما المهمة الحالية فهي سلق الباذنجان والبندورة لصناعة رب البندورة والمكدوس. المهمة شاقة ومتعبة كما يقول “أبو مازن”، ولكن هناك توفير لا بأس به، فبعملية حسابية بسيطة أجراها لنا تبيّن أنه بصناعة المونة منزلياً يكسب الضعف في كافة الأصناف وكذلك يضمن جودة المنتج الذي يقوم بتصنيعه.

وتستذكر “أم مازن” المرأة الستينية واقعهم في الثمانينات من القرن الماضي وعمليات تحضير “مونة الشتاء” عندما لم يكن التعويل ممكناً على استدامة التيار الكهربائي وبالتالي “تفريز” تجميد الأغذية، وبرأيها أنه لابد اليوم من العودة إلى تدابير الماضي، كالتجفيف بدلاً من التجميد، وعلى نكهة شاي الحطب تتابع أسرة أبو مازن مهمتها وسط أجواء من الارتياح، فمقولة “الفلاح المكفي ملك مخفي” حاضرة  في تفاصيل الحياة اليومية والاستعداد لشتاء صعب حاضر أيضاً، لأن الأيام القادمة صعبة، لذا لابد من العودة إلى تراث وعادات الأجداد في إعداد المونة.

طقوس اجتماعية 

وإن كان البحث عن الذاكرة دافعاً لأسرة أبو مازن، فقد يشكّل البحث عن أصالة الطعم دافعاً آخر عند الصبية رهف التي عبّرت عن سعادتها لتمكّنها من الحصول على خيار بصورة مباشرة من إحدى المزارع، وتصنيعها للمخلل بطريقتها الخاصة بعيداً عن الجاهز الموجود في السوق والذي غالباً ما يكون مالحاً جداً لا يناسب كل أفراد العائلة.

تدبير منزلي

رهف تستعين بكتاب التدبير المنزلي الذي رافقها في مناهج مهملة في مرحلة التعليم الإعدادي لتستحضر منه بعض المعلومات عن أساسيات تحضير المونة، وإن كانت والدتها لا تقتنع كثيراً بتلك الخطوات وتصرّ على اتباع طريقتها التي ورثتها عن أمها هي الأخرى، لكن رهف تجد أن الكتاب مفيد لضمان جودة المنتج.

بيت المونة

الإقبال على المونة وتخزينها لفصل الشتاء أصبح حافزاً عند كثيرين لإطلاق ورشات عمل واستثمار كل الإمكانيات والطاقات، وألا يكون الإنسان عالة على أحد. هذا ما قالته الشابة “هبا مزهر” التي نجحت بتأسيس مشروع أسري منزلي صغير بمساعدة زوجها، حقق استقراراً لأفراد أسرتها ووفر فرص عمل لعدد من النساء.

المشروع الذي أطلقت عليه اسم “بيت المونة” يتضمن تعليب كل احتياجات البيت من المونة لفصل الشتاء كالبازلاء والفول وورق العنب والملوخية وتجفيف النباتات كالزعتر البري والمردكوش وإكليل الجبل، وكذلك البامياء وتصنيع دبس الرمان والبندورة والعنب والمكدوس والكشك والمخللات والزبيب وعصير الحصرم وتجهيز الزيتون بأنواعه، إضافة إلى تصنيع منتجات الحليب من السمن والجبن واللبن وغيرها من المواد.

“مزهر” بيّنت أن العمل متواصل على مدار العام وتتمّ مواكبة جميع مواسم المونة التي تبدأ بالتحضير لها منذ منتصف الشهر الرابع مع الاستمرار في فصل الشتاء بتصنيع المنتجات المحلية المطلوبة باستمرار وغير المرتبطة بموسم ما. وحسب “مزهر” فإن تصنيعها لبعض المنتجات يكون بكميات كبيرة خلال الموسم “كالمكدوس” الذي يتراوح  ما بين 8 و10 أطنان ودبس البندورة بكمية تصل إلى نحو 500 كيلوغرام، مبينة أن المشروع يحقق وسطياً بشكل يومي مبلغ 10 آلاف ليرة على أقل تقدير، ما يعينها وزوجها وبناتها الثلاث على تأمين مصروفهم واحتياجات المنزل، إضافة إلى توفيره ما بين 4 و6 فرص عمل لنساء راغبات بالعمل.

الخوف من الغد

الكثيرُ من اللحظات تجدها تشبه الماضي وما يجمعهما هو الخوف من الغد، أي من المجهول، أو من البرد أو ندرة الموارد وغيابها من بعض الدوافع التي رسَخت حرص أبناء المجتمع على إعداد المونة، فاتجه المجتمع الذي يتقن صداقة الشمس ليقدّد ويجفف ويخبئ حرارتها بين رفوف النملية، فأي حنين نقل أبناء المجتمع إلى ماضٍ ظنوا أنفسهم أنهم تجاوزوه؟.

تقول السيدة “ألفت حمزة” وهي مهتمة بقضايا المجتمع: “الزمن الجميل جسر نتمسّك به رغم اختلاف ملامح المشهد بين الماضي والحاضر لنتواصل ونتذكّر جماليات العادات التي نفتقدها في وقتنا الحاضر والتي تربط وجدان الناس في نسيج متكامل يبنى بقالب من المحبة والخير والعطاء ومع زراعة كلّ حبة قمح نزرع القيم التي اندثرت قبل زراعة المحاصيل”.

الحاصل والمكور

وقصة المونة وتخزينها قصة قديمة تربّت عليها المجتمعات سابقاً وكانت سلاحاً فعالاً في مواجهة الأخطار المحيطة من حروب أو جفاف أو انهيار اقتصادي. وهنا يستذكر “خطار عماد” وهو من الفلاحين المهتمين بقضايا التراث الزراعي، متحدثاً عن المونة، حيث لم يكن هناك سابقاً مؤسسات تُعنى بتأمين رغيف الخبز للناس مثل اليوم، فكانت المحاصيل تخزن لسنوات طويلة في “الكوارة” وهي مثل الصوامع  لكنها أصغر حجماً تناسب البيت، تصنع من التراب الممزوج بالقش والماء وعندما تجفّ يوضع فيها القمح وبأرضها توضع عشبة الحرمل فتمنع حشرة السوس من النمو والتراب مادة صحية تمتصّ الرطوبة ومناسب لتخزين القمح والحفاظ عليه لسنوات طويلة، أيضاً هناك “الحاصل” وهو بناء يوضع فيه القمح والشعير من قبل جميع أهالي القرية أو لمن يأتي من بقية القرى والمناطق للقرية من ضيوف وعابرين.

وتبقى تفاصيل تحضير المونة تسكن الكثير من الحكايات والقصص التي ستخزنها ذاكرة اليوم للمستقبل وما تختزنه من ذكريات ككتاب مفتوح يحكي بقصصه حكاية عادات شعب وصموده، وإن كانت تلك الذكريات ممزوجة بألم ضيق العيش إلا أنها جسر مهمّ تربط بين الأجيال وتشكل سند إقامة في هذه الأرض رغم كل مغريات الخروج.

رفعت الديك