ثقافةصحيفة البعث

سعد يكن مايسترو الريشة واللون بين الموسيقا والفراشة وأشياء أخرى

ملده شويكاني

لوحة صبري المدلل وهو يعزف على العود كانت دلالة قوية على ارتباط سعد يكن بمدينته حلب، التي حملها في قلبه ونشر صورتها في كلّ دول العالم من خلال لوحاته التي عبّرت عن مدينة الموسيقا والطرب الأصيل، حتى لُقب بالمايسترو.

الموسيقا الكلاسيكية

حمل ريشته السحرية بدلاً من العصا السحرية التي جسّدها بيد المايسترو بأعماله الأوركسترالية الضخمة بالجداريات، التي ضمّت أغلب آلات الأوركسترا وركزت على البيانو في بعضها، وفي إحدى اللوحات أفرد مساحة لثنائي الصولو التشيللو والبيانو الآلتين اللتين كُتبت لهما أعمال من قبل مؤلفين عالميين. وأهدى الموسيقيين في كل العالم أعمالاً خاصة لمناسبة الاحتفال بيوم الموسيقا العالمي، أظهر من خلالها حركة المايسترو وتماهيه مع الموسيقا الكلاسيكية بانفعالاته الإيجابية المدهشة وتمايل جسده مع حركة عصاه السحرية.

التخت الشرقي

ورغم ثقافته الموسيقية التي نقلها يكن إلى عالم لوحاته، إلا أن عشقه الأكبر كان لآلة العود الذي كان بطل الكثير من أعماله، سواء أكان بالعزف المنفرد أم بمجموعة التخت الشرقي التي رسمها بصور متعدّدة في أعماله، وقد خصّ تفريدات كوكب الشرق بإحدى لوحاته.

الخوجة

كما اقترب من التراث الغنائي الموسيقي النسائي الذي اشتُهر في حلب من خلال فرق عُرفت باسم الخوجة، وغدت طقساً من الطقوس الاجتماعية النسائية التقليدية وتضمّ النساء فقط، وتعدّ لوحته الخوجة أنموذجاً، إذ توسطت ثلاث عازفات فضاء اللوحة، في الوسط عازفة القانون، وعلى جانبيها كلّ من عازفة العود وعازفة الإيقاع -الطبلة- التي تبدو أكثرهن جمالاً وغنجاً، وأضفت جمالية الألوان سحراً على الموسيقا المتخيّلة، ولاسيما أثوابهن الحمراء التي كشفت عن جمالهن الأنثوي، في حين أوحت الهالات البيضاء في الخلفية إلى تأثير وقع الموسيقا على العازفات.

المسرح والمقاهي

ويعود اهتمام يكن بتجسيد الشخوص سواء بالأعمال الموسيقية أو بالمقاهي الشعبية إلى تردّده إلى مسرح الشعب والمقاهي في بداياته، فاستقى مادته الأولى التي ساعدته على رسم الشخوص بمهارة فائقة بعدما أسبغ على ملامحها انطباعاته بالحالة النفسية التي يعيشونها بالواقع بأسلوبه التعبيري المقترن بالرمزية وبالتحوير وببراعته بتوظيف الألوان المتناغمة مع المضمون العام للوحة، ويتضح القاسم المشترك بين شخوصه بالتركيز على حركات الجسد وانثناءاته وعلى التفاصيل، وخاصة الأصابع، والسمة البارزة أن شخوصه حفاة الأقدام، ويعود ذلك كما قال يكن إلى استخدامه الوجوه والأطراف كوسائل تعبير رئيسية عن الحدث الدرامي في اللوحة.

المقهى والذات

ولم تكن أعماله المستمدة من روح المقاهي الشعبية أقل جمالاً من الموسيقا، ففي كلّ لوحة قراءة للوحات إنسانية وجدانية تخطّ آثارها على شخوصه فتقترب من سمات الراوية على امتدادها الزمني، ولاسيما أنه يعنوّن لوحاته بجمل تشبه فصول الراوية مركزاً على الزمان بالإضاءة الليلية وعلى المكان، ويوظّف الكرسي كعنصر أساسي من تكوينات اللوحة بإيماءة تدلّ على الفقدان والغياب حيناً بالكراسي الفارغة، ويمضي إلى أبعد من ذلك بالغوص عميقاً داخل الذات المتعبة بإثارة تداعيات تتعالى مع خلفية اللون الأحمر المهيمن على تفكير أحد الشخوص إيماءة إلى حضور الغياب. ومن زاوية أخرى يصوّر ارتباط الأشخاص بالمكان والزمان بصداقات ولقاءات تتراوح بين السطحية والعميقة كما في لوحة مقهى آخر الليل. ويتناول فضاءات حالات أخرى كما في لوحة حوار صامت مع الآخر، التي تجمع بين رجل وامرأة في حالة صمت يعيش كلّ واحد منهما في عالم تخيلاته رغم مشاركتهما الطاولة ذاتها في المقهى، وهذا ينسحب على حالات البعد النفسي بين الأشخاص على اختلاف الأمكنة والعلاقات.

ومن عالم الشخوص دخل عوالم الأنثى فأفصح عن أسرار وهواجس ربما لا تجرؤ على البوح بها لذاتها المقهورة، وأحياناً كانت ريشته قادرة على إخراجها من بوتقة الحزن لتتكيف مع واقعها وتبحث عن منفذ ضوء يعيدها إلى الحياة من جديد، فارتبطت حركة الفراشة الملونة برمزية بالأنثى لتعبّر عن حالات مختلفة تمرّ بها وتترك بصماتها المؤلمة بداخلها، كما في لوحة الأنثى ذات الثوب الأسود والفراشة الساكنة فوق فمها، أما في لوحة الأنثى ذات الرداء الأبيض فكانت تحاول اجتياز الصعوبات والعوائق عبْر تجاوزها الخطوط الأفقية التي تشبه القضبان، وهي تمسك الفراشة بيدها. ورغم المرارة التي جسدتها هذه الأعمال، إلا أن الحب لم يغب عن عالم سعد يكن، فكانت لوحة العروسين وحالة الحلم التي يعيشانها برمزية النباتات والأزهار والفضاءات البعيدة ضمن الطبيعة، في ظل لحظة الاحتواء والعناق العاطفي إحدى حالات الحب في مسيرته الفنية الغنية بالمشاعر الوجدانية.

موت أنكيدو

كما شغلت الأساطير اهتمام يكن فجسّد ملحمة جلجامش وأفرد لها معرضاً خاصاً، وتوقف عند ذروة الحدث لحظة موت أنكيدو الذي انتقل من حالة البداوة إلى الحياة المدنية بعدما منحه الحب الكثير من الجماليات، فحارب الشر إلا أنه دفع حياته ثمن ذلك، فقتل بين يدي صديقه جلجامش الذي خاض بعده غمار رحلة اكتشاف سر الحياة الأبدية، ليصل إلى أن الآلهة عند خلقها البشر، جعلت الموت من نصيبهم، واستأثرت بالخلود.

ففي لوحة موت أنكيدو- رقم (1) يظهر أنكيدو بوجهه المسالم الهادئ وهو مغمض العينين يحتضنه جلجامش لتغطي مسحات اللون الأحمر جزءاً من جسده ومن فضاء اللوحة، وتكتمل الصورة في اللوحة موت أنكيدو- رقم( 2) حينما يرسم يكن رأس أنكيدو باتجاه الأسفل إيماءة إلى الموت، بينما يظهر رأس جلجامش في الأعلى إشارة إلى الحياة، فيتعاكس الجسدان بين الموت والحياة.

شهداء مرفأ بيروت

وفي الآونة الأخيرة تناول الكثير من الموضوعات والأحداث، وكان أبرزها لوحات شهداء مرفأ بيروت، فنقرأ من شخوصه وألوانه قوله “أحرص على تناول مواضيع إنسانية نعيشها جميعاً”، القول الذي اختزل مسيرته المتنقلة بين الموسيقا والأساطير والأدب والإنسانيات، والتي تجاوزت مشاركته بأكثر من مئة معرض جماعي إضافة إلى معارضه الفردية، وأسفرت عن أعماله المقتناة في كلّ دول العالم، ودعواته للمشاركة بأحداث فنية عالمية.