عن عنصرية “الأوسكار”
نجوى صليبه
منذ أيّام وبعد خمسين عاماً، وجّهت أكاديمية علوم وفنون الصّور المتحرّكة “الأوسكار” اعتذاراً للممثلة والنّاشطة الأمريكية من أصول قبيلة الأباتشي الهندية “ساتشين ليتل فيذر” عن المعاملة المسيئة التي تلقتها خلال حفل جوائز الأوسكار في عام 1973، عندما اختير الممثّل “مارلون براندو” أفضل ممثل عن أدائه دور “فيتو كورليوني” في فيلم “العراب”، وحينها صعدت “فيذر ـ26 عاماً” بزيّ قبيلتها على المسرح عوضاً عنه لتعلن عن رفضه الجائزة بسبب عنصرية الحكومة الأمريكية تجاه السّكان الأصليين، ولم تكن في موقف تُحسد عليه قطّ على الرّغم من قوّتها وصمودها وجرأتها في إكمال كلمة لم تتجاوز السّتين ثانية قوبلت باستهجان وانتقاد الجمهور والإيماءات العنصرية والتّهديد بالعنف خارج المسرح.
وجاء في بيان الأكاديمية: عندما وقفت على مسرح الأوسكار عام 1973 لعدم قبولك لجائزة الأوسكار نيابةً عن مارلون براندو، تقديراً لموقفك من إساءة معاملة الأمريكيين الأصليين من قبل صناعة السّينما، لقد قدمتِ بياناً قوياً لا يزال يذكّرنا بضرورة احترام وأهمية كرامة الإنسان.. الإساءة التي تعرّضتِ لها بسبب هذا البيان كانت غير مبررة، ولا يمكن تعويض العبء العاطفي الذي عايشته وتكلفة حياتك المهنية في صناعتنا لفترة طويلة جداً، ولم يتمّ الاعتراف بالشّجاعة التي أظهرتها، لهذا نقدّم أعمق اعتذارنا وإعجابنا الصّادق”.
وبهذا، يعود الحديث القديم الجديد عن عنصرية الأكاديمية في ترشيح الأسماء للجوائز سواء من ناحية السّود أو الملوّنين الأميركيين أم العرب أم المسلمين، وسنقف عند بعض الأمثلة التي ما تزال لطخة عار في تاريخ الأكاديمية خصوصاً والبشرية عموماً ولن نعلّق عليها فمجرّد ذكر الحدث أو الموقف كفيل بأن يعطي صورةً واضحة عن هذه العنصرية التّاريخية، فبينما أكّدت وسائل إعلام منع الممثلة الأميركية ذات الأصول الإفريقية “هاتي ماكدانيل” من حضور حفل الأوسكار عام 1940 بعد فوزها بجائزة أفضل ممثل مساعد عن دورها في فيلم “ذهب مع الرّيح” تنفي أخرى الخبر وتقول إنّ “ماكدانيل” تمكّنت من حضور الحفل على الرّغم من إقامته في فندق يُحظر دخول ذوي البشرة السّمراء وصعدت واستلمت جائزتها وألقت كلمتها الخاصّة، ولنركّز هنا على عبارة (أُقيم الحفل في فندق يحظر دخول ذوي البشرة السّمراء”، لكن ما لم تختلف عليه وسائل الإعلام آنذاك ـ أو ما لم تكذب فيه ـ هو عدم دفنها في مقبرة هوليوود بسبب لون بشرتها.
وفي عام 2015 استشاطت غضباً حملة “الأوسكار بيضاء جدّاً” لغياب الممثلين السّود عن ترشيحات الأوسكار في فئات التّمثيل للعام الثّاني على التّوالي، واتّهم منظّموها الأكاديمية بالعنصرية، لتردّ على هذه الاتّهامات برفع نسبة أعضائها الملوّنين من سبعة بالمائة إلى تسعة عشر بالمائة، كما أجرت تعديلات ارتفع معها عدد المرشّحين الملوّنين في الأعوام اللاحقة، وهي تعديلات لم تكن على المستوى، ففي عام 2016، وبسخرية لاذعة انتقد الممثل الأميركي “كريس روك” عنصرية هوليوود، فأثناء تقديمه حفل توزيع جوائز الأوسكار بدورته الـ88 الذي أقيم في مسرح “دولبي” بمدينة لوس أنجلوس قال في كلمة بدء الحفل: يجب أن يحصل الممثّلون من أصول إفريقية على فرصٍ متكافئة مثل نظرائهم البيض، فالأمر لا يتعلّق بالمقاطعة، بل إنّ الممثلين السّود يريدون الفرص ذاتها التي يحصل عليها الممثلون البيض وليس مرة واحدة فقط، كاشفاً عن تعرّضه لضغوط لكي يتخلّى عن تقديم الحفل، وعن تفكيره الجدّي بالاعتذار لكنّه قرر لاحقاً أنّ حضوره سيكون مؤثّراً، وهذا ما كان فعلاً فقد قدّم مونولوجات ساخرة تدور جميعها حول إغفال تمثيل الأمريكيين السّود في الأكاديمية أكثر من واحد وسبعين مرّةً على مدار تاريخها منذ 88 عاماً، وقال آنذاك: لم يحتج الأميركان السّود في الخمسينيات والسّتينيات من القرن الماضي لمطالبة هوليوود بالتّنوّع، لأنّهم كانوا مشغولين بأمور حقيقية مثل تعرّضهم للاغتصاب والإعدام من دون محاكمات قانونية أكثر من عدم حصولهم على جوائز الأوسكار!، مختتماً الحفل بقوله: “حياة السّود مهمّة”.. ومرّة أخرى وفي الحفل ذاته تردّ رئيسة الأكاديمية المسؤولة عن توزيع الجوائز بقولها إنّ الأكاديمية ستتخذ المبادرة لمعالجة غياب التّنوّع في صناعة السّينما الأميركية، مشيرةً إلى أنّ جمهور السّينما متنوّع وهو على مستوى العالم لذا لابدّ من تعديلات حاسمة.
وعلى ما يبدو أتت هذه الحملات والانتقادات المتتالية أُكلها، حيث استقبلت الأكاديمية بعد فترةٍ قصيرة 819 عضواً جديداً، وشكّلت النّساء 45% منهم وصنّاع السّينما العالمية من خارج الولايات المتحدة الأمريكية نسبة 49%، بينما حصل ذوو البشرة السّمراء على نسبة 36%، ولا بدّ من أن نذكر ها هنا أن من ضمن الأعضاء الجدد أحد عشر عربياً من صنّاع السّينما في الوطن العربي، نذكر منهم في فئة الإخراج علي عبّاسي والمخرجة الفلسطينية نجوى نجار عن فئة الكُتّاب، أمّا فئة الوثائقي فنذكر المخرجين الجزائريين مالك بن إسماعيل وسالم إبراهيمي، والمخرج المغربي علي الصّافي، والمخرجة البريطانية العراقية تالا حديد، والمنتج التّونسي طارق بن عمار بفئة المدراء التّنفيذيين، والملحن اللبناني خالد مزنر بفئة الموسيقي، وفي فئة الأفلام القصيرة والتّحريك المخرجة اللبنانية مونيا عقل، والتّونسية مريم جبير والسّعودي أحمد صلاح، طبعاً مع التّنويه بأنّه حتّى الآن لم يفز أي فيلم عربي بجائزة الأوسكار، وكذلك الأمر بالنّسبة للممثّلين، ويعدّ رامي مالك الممثّل العربي الوحيد الذي فاز بجائزة الأوسكار عام 2019 لأفضل ممثل عن دوره في فيلم “الملحمة البوهيمية”، ولم يكن ليحقق ذلك إلّا بعد فوزه بالـ”غولدن غلوب” في الفئة نفسها.
وفي عام 2017، نال العديد من الملوّنين أو السّود جوائز الأوسكار أوّل مرّة في تاريخهم، فكانت على سبيل المثال لا الحصر الممثلة “فيولا دايفيس” أوّل ممثّلة سوداء تحصل على ثلاثة ترشيحات أوسكار، ولا يمكن هنا إلّا أن نتذكر مقاطعة المخرج الإيراني أصغر فرهادي الفائز بجائزة أفضل فيلم أجنبي للحفل احتجاجاً على قانون أصدره الرّئيس الأميركي “دونالد ترامب” يمنع مواطني بعض الدّول من دخول الولايات المتحدة.
كانت هذه أمثلة قليلة لمواقف كثيرة تدلل وتثبت عنصرية “الأكاديمية” على المستوى المحلي والعالمي، وتؤكّد ضرورة الانتفاض بوجه هذه القذارة والبشاعة التي تعكس كم الكذب والنّفاق والتّضليل الذي تمارسه ومن خلفها حكومتها في مجال حقوق الإنسان والمساواة والإنسانية والعدالة البشرية.