مجلة البعث الأسبوعية

اللعبة الساخرة للسلطة والمال

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

أنفق العالم 2.113 تريليون دولار أمريكي على التسلح في عام 2021، وفقاً لمعهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام والذي مقره في السويد. من هذا المبلغ غير المبرر تقريباً، أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من نصف الإجمالي 801 مليار دولا، وربما يكون أحد أسباب الإنفاق الكبير غير المتناسب على الأسلحة الأمريكية هو أنه تمت خصخصة صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة، على عكس الصين و روسيا. في الولايات المتحدة، يعتبر بيع الأسلحة والموت عملاً تجارياً، تجارة يمكن للمستثمرين الرأسماليين تحقيق أرباحاً هائلة من خلال بيع الأسلحة والمتاجرة بالحروب.

الأسلحة وتجارة الحروب

تعد الولايات المتحدة إلى حد بعيد أكبر مصدر للأسلحة في العالم، حيث تمثل  صادراتها من الأسلحة أكثر من ثلث إجمالي صادرات الأسلحة في العالم، حيث تشير الاحصائيات  إلى  أنه  في الفترة من 2017  إلى 2021، انخفض حجم تجارة الأسلحة العالمية بنسبة 4.6% ، مقارنة بالسنوات الخمس السابقة، لكن المبيعات العسكرية الخارجية للولايات المتحدة ارتفعت بنسبة 14% خلال نفس الفترة، وارتفعت حصتها العالمية من 32% إلى 39%..

تقوم  الولايات المتحدة ببيع الأسلحة من خلال الناتو،  كما أنها تبيع الأسلحة لدول مثل السعودية، وقد تسببت هذه الأسلحة نفسها بكوارث إنسانية مثل المجاعة في اليمن. كما أن الأسلحة الصغيرة المصدرة إلى أفريقيا تعمق الصراعات المحلية وتطيل أمدها، بحيث ترتبط السياسة الخارجية العدوانية للولايات المتحدة ارتباطاً وثيقاً بالأرباح التي يحققها مصنعو الأسلحة.

رهائن النزعة العسكرية

هل تدافع “وزارات الدفاع” بالفعل عن الشعوب؟ بالطبع لا، لأن أساسها مبني على الكذب، حيث يقوم المجمع الصناعي العسكري ببيع نفسه من خلال الادعاء بالدفاع عن المدنيين، وهو ما يبرر صرف الميزانيات الضخمة من خلال هذا الادعاء، لكن الأمر هم مجرد احتيال، فالهدف الوحيد بالنسبة للمجمع الصناعي العسكري هو المال والسلطة، والمدنيون هم مجرد رهائن، ومستهلكون، وبيادق في لعبة القوة، أي لعبة المال.

إن الدول التي تمتلك أسلحة نووية تهدد بعضها البعض بـ”التدمير المؤكد المتبادل”، وهذا يعني أن المدنيين غير محمين على الإطلاق، فهم مهددون بالدمار الكامل، حيث يلعب المدنيون هنا دور الرهائن في لعبة القوة التي يمارسها قادتهم. لذلك، لن تكون الحرب النووية الحرارية اليوم إبادة جماعية فحسب، بل ستكون أيضاً بمثابة دمار شامل، وسوف يقتل فيها الناس من جميع الأعمار، الرضع والأطفال والشباب والأمهات والآباء والأجداد دون أي اعتبار للذنب أو البراءة، وستكون مثل هذه الحرب بمثابة كارثة بيئية تامة، لأنها لا تدمر الحضارة الإنسانية فحسب، بل تدمر أيضاً جزءاً كبيراً من المحيط الحيوي.

هناك الكثير من القلق اليوم بشأن تغير المناخ، لكن يمكن أن تحدث كارثة بيئية ذات حجم مساوٍ أو أكبر بسبب حرب نووية، ويمكن للمرء أن يكون  فكرة صغيرة عما سيكون عليه الحال من خلال التفكير في التلوث الإشعاعي الذي جعل منطقة نصف مساحة إيطاليا بالقرب من “تشيرنوبيل” غير صالحة للسكن بشكل دائم، لكن من السابق لأوانه معرفة الآثار الكاملة لكارثة “فوكوشيما”، لكن يبدو أنها ستكون قابلة للمقارنة مع “تشيرنوبيل”.

إن  الآثار البيئية للحرب النووية ستكون كارثية، فالحرب التي ستحدث باستخدام القنابل الهيدروجينية من شأنه أن ينتج عنها تلوث إشعاعي من النوع الذي شهدناه بالفعل في المناطق المحيطة بتشرنوبيل وفوكوشيما وفي جزر مارشال، ولكن على نطاق متزايد بشكل هائل. ولا بد من الإشارة إلى أن إجمالي القوة التفجيرية للأسلحة النووية في العالم اليوم هو 500 ألف مرة أكبر من قوة القنابل التي دمرت هيروشيما وناغازاكي، فالحرب النووية اليوم تهدد بالانهيار الكامل للحضارة الإنسانية.

بالإضافة إلى انتشار النشاط الإشعاعي القاتل في جميع أنحاء العالم، ستلحق الحرب النووية أضراراً كارثية بالزراعة العالمية، حيث ستخلف العواصف النارية في المدن المحترقة ملايين الأطنان من الدخان الأسود الكثيف المشع، وسوف يرتفع الدخان إلى طبقة “الستراتوسفير”، حيث سينتشر حول الأرض ويبقى لمدة عقد. كما أن البرد المطول، وحجب ضوء الشمس وهطول الأمطار، والزيادات الهائلة في الأشعة فوق البنفسجية الضارة من شأنها تقصير أو القضاء على مواسم النمو، مما ينتج عنه مجاعة نووية، وحتى حرب نووية صغيرة يمكن أن تعرض حياة مليار شخص للخطر يعانون اليوم من نقص التغذية المزمن. إن حرباً واسعة النطاق باستخدام القنابل الهيدروجينية تعني أن معظم البشر سيموتون من الجوع، كما أن العديد من الأنواع الحيوانية والنباتية ستكون مهددة بالانقراض.

إن الحوادث التي يتم فيها تجنب كارثة عالمية في اللحظة الأخيرة تحدث باستمرار، على سبيل المثال، في يوم 26 أيلول 1983، كان الضابط ستانيسلاف بيتروف، مهندس برمجيات شاب، يعمل في مركز الإنذار المبكر بالقرب من موسكو، وفجأة تحولت شاشة  الكمبيوتر أمامه إلى اللون الأحمر الفاتح، وانطلق جرس الإنذار، وملأ الغرفة صوتاً صاخباً قوياً، تبع ذلك إنذار ثانٍ، ثم ثالث ورابع وخامس، حتى صم الضجيج الآذان. أظهر جهاز الكمبيوتر إنذاراً عن  رصد إطلاق صواريخ أمريكية ضد روسيا، ولكن بيتروف اتخذ قراراً شجاعاً على مسؤوليته الشخصية بأن ما حدث مجرد إنذار كاذب، حيث أجرى اتصالاً بمقر القوات المسلحة وأبلغ عن عطل في نظام الإنذار المبكر، وحال الإجراء الذي اتخذه في ذلك الوقت، والذي أُعلن عنه بعد عدة سنوات، دون نشوب حرب نووية محتملة.

هناك خطر من أن العالم، بكل ما فيه من جمال وقيمة، سوف يتم تدميره من خلال هذه اللعبة الساخرة للسلطة والمال، والتي يكون فيها المدنيون رهائن للنزعة العسكرية. هل سنترك هذا يحدث؟!.

بحثاً عن أعداء

لأن العالم ينفق ما يقرب من تريليوني دولار كل عام على التسلح، يترتب على ذلك أن الكثير من الناس يكسبون أموالهم من الحرب، وهذا ما يجعل الحديث عن الحرب كمؤسسة اجتماعية وسياسية واقتصادية مقبولاً و صحيحاً، وأيضاً أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار الحرب، على الرغم من أن الجميع يدركون أنها سبب الكثير من معاناة الإنسانية، ويعلم الجميع  أن الحرب ضرباً من الجنون، لكنها مستمرة، كما يدرك جميع الناس أنها تهدد بقاء الجنس البشري، لكنها ما زالت مستمرة و متجذرة كما يؤكد المؤرخون ومحررو الصحف ومقدمو البرامج التلفزيونية ، كما أنها مترسخة في الأساليب التي يمول بها السياسيون حملاتهم، كما هي ظاهرة في القوة المالية لمصنعي الأسلحة، وأيضاً في معدات وأدوات التدمير الحربية باهظة الثمن والمكلفة، وأساطيل السفن الحربية والقاذفات والدبابات والصواريخ النووية وما إلى ذلك.

وفي هذا الشأن، قال لي هايدونج، الأستاذ في معهد العلاقات الدولية بجامعة الشؤون الخارجية الصينية: ” إن شن حروب دامية هو الدافع وراء بقاء المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وهو مدفوع أيضاً بأن يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار والفوضى في العالم، الأمر الذي يعني أن الحروب تعد منافذ دعم قوية لصناعة السلاح الأمريكية انطلاقاً من كونها دافعاً باتجاه زيادة التصنيع من جانب، ومعززاً لتجارة السلاح من جانب آخر، إضافة إلى كون ساحات الحروب ميادين لاختبار واستعراض الأسلحة الحديثة”.

عند استعراض التاريخ، نلاحظ بوضوح أن المجمع الصناعي العسكري الأمريكي كان دائماً حريصاً على دفع السياسة الخارجية للولايات المتحدة باتجاه الحرب والصراع، فالولايات المتحدة مرتبطة بشدة بالمجمع العسكري الصناعي، وهي تخلق باستمرار صراعات حول العالم، وهي المصدر، والمحرك الرئيسي من خلف الكواليس للاضطرابات الموجودة في العالم. فبعد انتهاء الحرب الباردة، شاركت الولايات المتحدة في حرب الخليج، وشنت حرب كوسوفو، وحرب أفغانستان، وحرب العراق الواحدة تلو الأخرى، وكسب تجار السلاح الأمريكيون الكثير من الأموال من الحروب. ووفقاً للإحصاءات، ربح عمالقة الأسلحة الخمسة الكبار (شركات لوكهيد مارتن وريثيون وجنرال ديناميكس وبوينغ ونورثروب غرومان) 2.02 تريليون دولار من الحكومة الأمريكية بالحرب في أفغانستان وحدها.

حذر الرئيس الأمريكي دوايت دي أيزنهاور بلاده في خطاب الوداع، من القوة المفرطة التي اكتسبها المجمع الصناعي العسكري خلال الحرب العالمية الثانية، وعكست كلمات أيزنهاور صدى لكلمات رئيس أمريكي آخر، جورج واشنطن، الذي حذر من “المؤسسات العسكرية المتضخمة”. لذلك احتاج المجمع الصناعي العسكري إلى أعداء، لأنه بدونهم سينتهي. وهكذا، في نهاية الحرب العالمية الثانية، واجه مجمع القوة الهائل أزمة حقيقية، لكن تم إنقاذه باكتشاف عدو جديد، وهو الشيوعية. ومع ذلك، في نهاية الحرب الباردة، كانت هناك أزمة رهيبة أخرى تواجه المؤسسة العسكرية، وصانعي الأسلحة ومؤيديهم في مجال البحوث والحكومة ووسائل الإعلام، حيث  تحدث الناس عن ” مكاسب السلام”، أي الاستخدام البناء لتريليوني دولار التي يهدرها العالم كل عام على التسلح.

ومع ذلك، في الوقت المناسب، تم إنقاذ المجمع الصناعي العسكري من كابوس “مكاسب السلام” بهجمات 11 الحادي عشر من أيلول على نيويورك وواشنطن. لكن بغض النظر عن أن الهجمات كانت جرائم ارتكبها أفراد وليست أعمال حرب، فإن الجرائم التي ارتكبتها الشرطة بدلاً من العمل العسكري كانت مناسبة، إذ سرعان ما أعلنت إدارة بوش، ومحطة “سي إن إن”، و”فوكس نيوز”، الخ .. أن حالة الحرب قائمة، وأن قواعد الحرب سارية المفعول، حيث استبدلت الحرب الباردة بـ “الحرب على الإرهاب”.

يمكن تفسير هذا الرد المبالغ فيه على أحداث الحادي عشر من أيلول إلى حد كبير من حيث احتياجات المجمع الصناعي العسكري الذي حذر منه أيزنهاور، فبدون حالة حرب وبدون أعداء، كان هذا التجمع الهائل من المنظمات وجماعات الضغط سيضعف.لكن  إذا كان الهدف من “الحرب على الإرهاب” هو تخليص العالم من تهديد الإرهاب، لكانت أعمال مثل الاغتيال غير القانوني باستخدام طائرات بدون طيار لتؤدي إلى نتائج عكسية، لأنها تخلق إرهابيين أكثر بكثير مما تدمرهم، ولكن بما أن الهدف الحقيقي هو إنتاج حالة حرب دائمة، وبالتالي زيادة أرباح المجمع الصناعي العسكري، فإن مثل هذه الأساليب هي أفضل ما يمكن تخيله.

بالنسبة لأولئك الذين ينتمون إلى المجمع الصناعي العسكري، فإن الحرب الدائمة هي نعمة، لكنها بالنسبة لغالبية الناس في العالم نقمة، خاصةً أن الغالبية العظمى هم المدنيين الذين يعارضون الحرب. لقد كانت الحرب دائماً جنوناً، ودائماً غير أخلاقية، ودائماً سبب معاناة لا توصف، وإهدار اقتصادي، ودمار واسع النطاق، كما كانت دائماً مصدراً للفقر والكراهية والهمجية، ودورات لا نهاية لها من الانتقام والانتقام المضاد.

ولطالما كان قتل الجنود للناس يعتبر جريمة، تماما مثلما قتل الناس جريمة في المجتمع المدني، لم يكن أي من الشعارات كافياً للتغطية على الحرب كجريمة وعلى الفظائع التي تُرتكب في الحرب. ولكن اليوم، فإن تطوير أسلحة نووية حرارية مدمرة بالكامل قد وضع الحرب تماماً خارج حدود العقلانية والإنسانية الأساسية. لذلك  ألا يمكننا تخليص أنفسنا من الأسلحة النووية ومن مؤسسة الحرب نفسها؟. يجب أن نتصرف بسرعة وحزم قبل أن يتحول عالمنا الجميل إلى رماد مشع، مع كل ما نحبه.