مجلة البعث الأسبوعية

يعقوب إبراهيم.. فنان راح يستلهم أساطير الشرق القديم

فيصل خرتش

الأعمال الفنية التي أنجزها الفنان يعقوب براهيم تستلهم الأساطير في المنطقة، والقيم الجمالية والتعبيرية التي يحتضنها ذلك التراث، هذه الأعمال جعلته في بؤرة الضوء، إنه يسعى إلى اكتشاف الجديد الذي يوصله إلى هدفه، وليس مستبعداَ أن يتوجه الفنان نحو الأساطير مادام عاش في الشمال الشرقي لسورية، فقد ولد في الدرباسية عام 1956.

قدم يعقوب إلى حلب في مطلع التسعينيات، وأقام فيها، ثمَ غادرها إلى دمشق ليدرس في كلية الفنون الجميلة، وتخرج فيها عام 1981 بعد أن صقلت موهبته ومنحته المعارف الأولى لأبجديات الفن، ثمَ سافر إلى إيطاليا وتابع دراسته في أكاديمية الفنون بفلورنسا حيث تخرَج منها عام 1988 وأثرى معارفه الفنية التي ظهرت في معرضه الأول عام 1989 وقد أنجز عدداَ من الأعمال الفنية كان أبرزها (الميلاد وقيامة المسيح) وانعكست فيها رهافة الفنان وحساسيته، فقد بدا مشبعاَ بالضياء الذي يوحي بالقداسة.

أخذ الفنان يرنو نحو المنجزات التصويرية والنحتية للفنون الأشورية، وأخذ يفكر في القيم الجمالية والروحية لهذه الفنون ووجد أنه بإمكانه الاستفادة من هذه الأعمال عبر المواضيع الأسطورية مع شيء من المعالجة الفولكلورية كي يخلص إلى علاقة جديدة، ونجد ذلك في عدد من اللوحات التي أنجزها الفنان في ايطاليا، وتجلَى ذلك في الإضاءة التي جعلها خافتة هادئة في معظم أرجاء اللوحة.

وبعد عودته إلى سورية عكف على دراسة الفن السوري القديم في بلاد الرافدين وأعاد صياغتها بروح الفنان المعاصر، يقول: “تابعت ما درسته في علم الآثار وبحثت في الجداريات النافرة للآشوريات وتمائم الفن السومري التي تظهر في الأختام لأدخل عبر روحانية الفنان دون أن أضطر إلى شكل العمل لأبتعد عن التسجيلية قدر المستطاع، لذلك فأنا أغامر لإعادة فهم تراث الفن الشرقي والدخول في عمقه الروحاني”.

وما لبثت هذه الدراسة أن أثمرت وظهرت في معرض أقامه الفنان في صالة بلاد الشام بحلب عالم 1993 وعرض لوحات مبسطة حاول فيها استلهام الجداريات التي خلفتها جداريات الشرق القديم، محاولاَ خلق لوحة مشخصة لها هذه الروحانية التي يتمتع بها الشرق، إنها تمجد الإنسان والحياة اليومية وتمجد الخصب والعطاء، أطلق الفنان على معرضه اسم “الخصب” وقد عالج الفنان موضوعات شتَى تتصل بطقوس الإنسان الذي عاش في بلاد الرافدين وعلاقته بما يحيط به من كائنات وآلهة (لوحة قرابين عشتار) والثنائيات التي تجمع بين الرجل والمرأة، تسعى إلى تأكيد معنى الخصوبة، فالمرأة هي الخصوبة، إنها الأرض، ولها قدسيتها: إنها رمز العطاء، لقد كانت المرأة إلهة.

وعرض الفنان لفكرة الخطيئة من خلال ثلاثية آدم وحوَاء، كما تناول بعض الثمار التي تحمل دلالات مقدسة، كالقمح والزيتون والرمان والعنب، وتناول موضع الطبيعة الصامتة، وعالجه ضمن المنظور المقدس، بحيث تبدو الفاكهة وكأنها قطفت من الجنة لتعلق في معبد أو أنَ العذارى جنتها لتقدمها للآلهة في مهرجان الخصب.

تبرز خبرة الفنان الأكاديمية في اختيار الألوان، فالألوان الشرقية تخدم موضوعه، وتسهم في تكوين الأجواء الروحانية التي يسعى إليها، اللون الأخضر يهيمن على اللوحة بدرجاته الخافتة المطفأة، تحتضنه النبرات البرتقالية والبنفسجية، ويساهم اللون الأصفر في إحداث الإضاءة الروحانية، الأشكال تذوب في خضم اللون الذي يمتد نفوذه إلى خلفية الشكل مما يضفي عليه مناخاَ متوحداَ أقرب إلى الصوفية “هذه المعالجة اللونية التي اخترتها لأعمالي قصدت منها الوصول إلى حالة سلام وسكون وراحة نفس كأنك أمام مشهد في معبد”.

أقام الفنان معرضاَ في صالة دمشق للفنون الجميلة عام 1995 وأبرز المعرض اهتمامه بالموضوعات البيئية ومعالجته الفنية ازدادت وضوحاَ عن المعارض السابقة، لقد شحن الخطوط المكونة للشكل بطاقة التأمل الذاتي، ثمَ جاء اللون دافئاَ ليؤكد الذات السرية للمعطى التأملي الجمالي، إنه متمكن من أدواته التعبيرية، وخاصة مع الجماليات شكلاَ ولوناَ، فاجأنا بفرح توهَج اللون شفافاَ ونقياَ بدرجاته الفاتحة، فالأصفر يعلن عن وضوحه الجميل، فهو حاضر دائماَ إما صريحاَ أو أخضر باتفاقه مع الأزرق، وعندما يقترب من الأحمر يفصح عن طبقات رقيقة من البرتقالي، يبدأ الانسحاب فيما بعد تاركاَ للأحمر أن يتحول إلى اللون الناري.

يتابع الفنان بحوثه التشكيلية ويتكوَن لديه هاجس يدور حول الصياغة الغرافيكية للأشكال التي حفلت بها المنحوتات الحجرية لبلاد الرافدين بما فيها من خطوط نافرة وغائرة وتضاريس حجرية تغني سطح المنحوتة من خلال ما يتراكم في الأخاديد من مواد وتراكمات تبرز ملامحه، ويفتتن بالتمائم والدمى الحجرية والجصية التي توغل في رحم التاريخ لتصل إلى بدايات الإنسان السوري في تجسيد أفكاره ومعتقداته بأدوات فنية بسيطة تظهر بكورة تفكيره وسلامة إحساسه بالكائنات، ويرى يعقوب: أن الفن السوري كان أكثر تحرَراَ من الفنون الأخرى المحيطة به في الحضارات القديمة، ويبدي إعجابه بالفن السوري القديم الذي كان يبتعد عن المحاكاة والتقليد، ويحاول البحث عن صيغ جديدة في التعبير يحدوه في ذلك حسه المتنامي المتحرر الساعي إلى الابتكار والتجديد: “الفنان السوري القديم اعتمد على المباشرة وعلى أسلوب خاص، وأنا لو اعتمدت ذلك لكنت تسجيلياَ، لم أت بجديد، فلا بدَ من معطيات جديدة للعمل وتجسدت في الخط التعبيري واللون والضوء”.

وفي نيسان عام 2001 أقام الفنان معرضاَ في صالة الأتاسي ضمَ إنتاجه الأخير عبر لوحات متباينة المقاسات، والجديد في هذا المعرض تلك التقنية المدهشة التي تظهر اللوحة وكأنها (روليفاً) حجرياَ تبرز فيه تضاريس الحجر بكلَ تفاصيلها وانعكاسات الضوء واللون عليها، مما كان يدفع المشاهدين لمدَ أيديهم وملامسة سطح اللوحة لكنَ المفاجأة تبدو حين ترتد الأيدي وقد لمست سطحاَ أملس وأنَ ما تراه العيون لا يعدو خدعة بصرية توصل إليها الفنان بالتقنيات العالية، لقد استطاع أنيربط الشكل بالمضمون في معادلة قلَ أن يحققها فنان، لقد تمكَن من الجمع بين الموضوع الإنساني بصيغته المحلية والأسلوب التصويري الذي يستظهر الفنون السورية القديمة.