حنا مينه.. الرواية ديوان العرب
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
المبدع شخص يمتلك حساسية خاصة تجاه المشكلات، وهو أقدر من غيره على رؤية الأزمات والتعرف على أسبابها، فالإبداع حالة من حالات النضال الإنساني يعمل على رفع الوعي لدى الناس، لتغيير حياتهم نحو الأفضل، وكثيرة هي الإبداعات التي تعرفنا على جوانب حياتية لأشخاص لهم أحلامهم وآمالهم في مستقبل مشرق بعيداً عن التعقيد، والروائي الراحل حنا مينه من أهم الروائيين السوريين، بدأ تاريخه الإبداعي مع الرواية بعيداً عن أي نوع أدبي آخر، فهو يراها ديوان العرب، وسفيرة الوطن إلى العالم الآخر، ففي رواياته يجتمع الزمان والمكان عبر حكاية اختزلها المكان في ذاكرته تاريخاً، فعلى مدى تجربته الأدبية الطويلة طرح الكثير من القضايا والاشكالات الحياتية، وقدم لنا صوراً اجتماعية تعكس الواقع بكل جوانبه، وتتجسد شخصياته كائنات من لحم ودم نابضة بالحياة، مؤمناً أن الإنسان المبدع والموهوب مهمته أن يحقق بإبداعه للناس والمجتمع ما يفيدهم، وهو بذلك يغتني بما يكتب، وقد جسّد في رواياته التي استلهمت من عالم البحار فكرة الكفاح لتحقيق العدالة الاجتماعية، عبر شخوص بمختلف الوضعيات الاجتماعية، فعبّر عن ألمه الخاص، من خلال “الألم العام” الذي يتنقل في غالبية أعماله الروائية، تعبيراً منه عن قيمة الصراع الاجتماعي في خلق نماذج إنسانية تنال نصيبها من العدالة، بعد كفاح طويل ومعقد ومتعدد الجوانب. ولذلك طالب كثيراً بأن يكون الأدب “من لحم ودم” من خلال شخوص “يعيشون بيننا”.
كان مينه يعبّر عن نفسه بوضوح، مؤكداً أنه ينتمي للمدرسة الواقعية الاشتراكية، مشيراً إلى فارق ضروري، بين واقعية الواقع وواقعية الأدب والإبداع، فقدم في رواياته صورة للواقعية الاشتراكية بعد أن ثبت أنها طريقة في التعبير الفني لاتخص البلدان الاشتراكية وحدها بل هي تُستخدم خارجها أيضاً بما استطاعته من إضافة البعد المستقبلي، بعد أن كانت الواقعيات قبلها تتناول البعدين الحاضر والماضي فقط، مع إيماءات مستقبلية في أفضل الأحوال، وقد تمكن في ماكتبه من روايات من طرح القضايا طرحاً صحيحاً، متمثلاً قول مكسيم غوركي “بما أن حقيقة المستقبل واضحة وبسيطة فعلى الكاتب أن يجنح إلى البساطة والإيحاء”.
لايرى حنا مينه الكتابة الروائية انزلاقاً في فراغ أو دوراناً على محور بعينه لاتتعداه، بل هي بناء من صور يكتسب نفسه في المشهد الروائي على أساس اقتصاد دقيق ومحكم في الكلمات على درجة عالية من المهارة في جعل الصورة المتشكلة في المخيلة صورة مقروءة في العين مرئية بالباصرة، ممتعة في التذوق، متسقة مع السياق، ذات إيقاع وتشويق كاملين، الأمر الذي يجعلنا نتعلم ونركز، وأن نكثف ونستثمر الزمن ونكسر ترتيبه وتواتره فنبتكر من خلال الرواية ماضينا وحاضرنا وأحلامنا وذاكرتنا كلها، فالرواية المشغولة جيداً، على أساس الموهبة وعلى أساس الحدث وتناميه سياقاً وشخوصاً تسيطر علينا وتعطينا دلالتها من ذات موضوعها ومن فكرته ونسيجه ومن روعة صياغته حتى ننسى أنفسنا امام مثل تلك الرواية التي تأخذنا إليها وتضعنا في جوها وتملي علينا بإيقاعها وتشويقها وشاعريتها معاً ماتريد أن تقول حين يكون لديها ماتقول، ويصبح الخلق الروائي في هذه الحال خلقاً معالجاً بالفكرة وتحليلها، وكذلك تجسيدها عبر الصورة والإيحاءات، وعندئذ ننفعل ونندغم دون أن ننسى أنفسنا ونتأثر بالعالم الرحيب المفتوح أمامنا المتشكل صفحة بعد صفحة، ونقع تحت سيطرته لأنه عالم من بنائنا ومن ابتكارنا، وليس منهما في آن، فهو واقع وخيال وهو أدب حقيقي ذو موهبة عالية، ومن المفروغ منه أن العمل الروائي يرتكز على الصراع وتصادم المتناقضات في قلب وحدتها على فهم جدلية الحياة وإبراز تنافرها وانسجامها، لتأتي الرواية بعد ذلك متساوقة وهذا الكل، متناغمة في شموليتها وفي رؤيتها الإنسانية وطرحها الاجتماعي، أو تحليلها النفسي، ويظل الإنسان ابن الوجود وسبباً من أسباب صيرورته وجوداً حياً عاقلاً ومتطوراً هو مدار العمل الأدبي- الفني، ومن هذا الإنسان حين يكون الروائي مستلهماً للواقع في تحوله فناً يجب أن يأخذ وله يجب أن يعطي، ولن يكون ثمة أخذ وعطاء إنسانيين إلا بفهم المجتمع وبامتلاك مفهوم متكامل عنه لأنه في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه الروائي ويتحرك ضمن بيئته برغبة صادقة أمينة في التعبير عن قضاياه ومشاكله وتطلعاته، يكون قد أدى دوره لامتفرجاً على مايجري بل ومساهماً أيضاً في تغيير هذا الذي يجري.