على أبواب المفاضلة الجامعية.. هل سيتم قلب الهرم هذه المرّة وإنصاف التعليم المهني؟
تلقى التعليم المهني والتقاني شحنة دعم قوية خلال الفترة الماضية من خلال صدور القانون رقم /38/ لعام 2021 والذي يهدف إلى “تنظيم مسار التعليم الثانوي المهني وتأمين كوادر عاملة تلبي احتياجات سوق العمل من مختلف المهن، وتأمين التدريب للطلاب في بيئة العمل الحقيقية عن طريق إحداث مراكز تدريب وورشات إنتاج خاصة بالثانوية المهنية بغية رفع سوية خريجيه من الناحية العلمية والعملية وصولاً إلى المساهمة في دعم العملية الإنتاجية وتحقيق التنمية المستدامة”.
استمرار النظرة السلبية
ومعلوم أن التعليم المهني عانى وما يزال من النظرة القاصرة أو السلبية التي جعلت منه مأوى للكسالى الخارجين بلا فرصة من مفاضلة القبول الجامعي، ولعلّ الفرصة مواتية اليوم لإعادة الاعتبار لهذا النوع من التعليم، إذا ما حصل التنسيق والتعاون ما بين وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي بدعم المتميزين في الثانويات المهنية وزيادة نسبة القبول في المعاهد التقانية.
لم يتطور كما نريد!
بحسب الدكتور محمود بني المرجة معاون وزير التربية لشؤون التعليم المهني والتقني والمعلوماتية أن هذا النوع من التعليم لم يتطوّر بعد بالمقدار الذي تطمح إليه وزارة التربية، وذلك لأسباب كثيرة أغلبها اجتماعية، مشيراً إلى أن النظرة السلبية والدونية للتعليم المهني تؤثر على قرار الأهل في استمرارية ابنهم بدراسة التعليم المهني أو متابعة الحصول على شهادة دكتور أو مهندس، هذه النظرة -وفق بني المرجة- أدّت إلى عزوف الكثير من الطلاب الراغبين بالانتساب إليه بسبب ضغط أهلهم عليهم، ومحاولة توجيه مسار حياتهم باتجاه كليات الطب وغيرها، والتي على الأغلب أن 80-90% من طلابنا لا يحصّلون علامات هذه الكليات، وبالتالي تؤدي إلى ضياع من 7-10 سنوات من عمر كلّ واحد منهم، ليذهب بعد مضي هذه السنوات لعرض خدماته بغية التوظيف بمعمل أو خط إنتاج فيشترط عليه صاحب المعمل أن يتبع دورة فنية للتعامل مع التقنيات لإتقان مهنة معينة “كهرباء، تكييف، تبريد، نجارة.. الخ”، فيضطر خريج الكليات النظرية غير “كليات الطب والهندسة” إلى دفع مبالغ طائلة لتعلم جزء من حرفة تكون كافية لدخوله للمعمل وبأجر متواضع بسبب عدم حمله شهادة فنية أو مهنية.
المهنة أفضل اليوم
تغيير النظرة السلبية لهذا النوع من التعليم يتطلّب وجود قناعة عند الأهل بأن أولادهم ليسوا كلهم بالسوية نفسها لتحصيل شهادة الطب وغيرها، وفق ما بيّن معاون الوزير، منوهاً بأن أي مهنة اليوم باتت أفضل من أي شهادة أخرى من حيث المردود المادي والمكانة الاجتماعية، فمجتمعنا مادي يقيّم الإنسان من خلال ما يملك وبالتالي الإنسان الأسرع بالثراء هو صاحب المهنة أو الحرفة، وإلى أن يقتنع الأهل بأن هذا الشيء صار بديلاً سيبقى التعليم المهني يعاني من آثار هذه النظرة السلبية وبالتالي انخفاض أعداد المنتسبين والراغبين بهذا النوع من التعليم، لأنه ينحصر حالياً بالطلاب الذين لم يحصلوا معدلات عالية، وبالتالي أصبح هناك انطباع عام بأن الطالب الكسول يدرس صناعة، وهذا انعكس على مردود هذا التعليم ومستوى الخريجين وأعطى صورة غائمة عن طبيعة هذا التعليم وفوائده للمجتمع.
دعم مادي
وبيّن معاون وزير التربية أن الوزارة تحاول دائماً دعم هذا النوع من التعليم، فاليوم 70% من ميزانيتها تُصرف على تطوير التعليم المهني ونفقاته في محاولة منها لإقناع هذا الجيل بضرورة الانتساب لهذا النوع من التعليم الأكثر فائدة للمجتمع والأكثر مردوداً مادياً أيضاً، لكن تحول القوانين أحياناً بين رغبات الوزارة وبين طموحاتها والواقع الحالي، فمثلاً نسبة القبول 30% بالتعليم المهني مقابل 70% من الطلاب العاديين هذا الشيء يؤدي لانخفاض عدد الطلاب وحصر عدد المقبولين بالذين لم يحصلوا علامات عالية، وبالتالي انعكس على المستوى العلمي لطلاب التعليم المهني مما أدى لخروج عدد من الطلاب غير المؤهلين بشكل جيد.
مشكلات اجتماعية
أما فيما يخصّ تسرب الطلبة من المعاهد المهنية، فيربط الدكتور بني المرجة السبب بإمكانية تسجيل الطالب بالتعليم المهني والقفز إلى التعليم الحر، أي يتخذون من التعليم المهني منصة عبور للوصول إلى الثانوية العامة الحر “أدبي– علمي- شريعة”، ما يعني أنه حجز مكاناً لطالب آخر كان يرغب بالانضمام للتعليم المهني ولكن نسبة 30% لم تحقق رغبته، وبالتالي حجز مكاناً لم يستفد منه ولم يترك غيره يستفيد منه، مشيراً إلى أن هذه المشكلة تمّت محاولة ضبطها العام الماضي باتخاذ إجراءات صارمة من خلال نسب قبول طلاب التجاري وتحديد نسبة 5% شباب و10% شابات ما أدى لتوليد بعض المشكلات الاجتماعية مثل أن بعض الطلاب كانوا يرغبون بالتعلم حتى لو تجاري بسبب ظروفهم الاجتماعية أو بعد مناطقهم السكنية عن المدارس، وبالتالي هذا حرمهم من فرصة التقدم للامتحانات، وبالتالي رفعت الوزارة هذا العام النسبة إلى الضعف أي 10% شباب و20% شابات، فربما هذا يساعد بزيادة عدد المقبولين بالتعليم التجاري وزيادة مردوده لأنه التعليم الذي يستوعب جميع الطلاب الذين لم يحققوا فرصه الدراسة إما بالعام أو بالمهني، وبالتالي باقي الطلاب ينتسبون للتعليم التجاري وعادة ما ينتسبون بشكل شكلي فقط لغرض الحصول مثلاً على تأجيل الخدمة الإلزامية.
قوانين مهمة جداً
وبخصوص القوانين التي صدرت أكد الدكتور بني المرجة أنها قوانين مهمة جداً، وشكلت ثورة بالفعل في عالم القوانين، سواء القانون رقم 38 لتحويل الثانويات المهنية لمراكز إنتاجية، أو القانون رقم 25 لتحويل المعاهد المهنية التقنية لمراكز إنتاجية أيضا، مشيراً إلى أنه يتمّ حالياً العمل على إصدار اللائحة التنفيذية للقانون 25 وصدور تعليمات إدارية بتشميل بعض الأساتذة من الإداريين بنسبة الـ40% من تعويض الراتب، سواء كان مدير المدرسة أو رؤساء الأقسام أو أمين السر، وهذا بالتالي شجّع المدرسين ليشغلوا هذه المناصب بعد العزوف السابق عنها باعتباره التزاماً بلا مردود، لافتاً إلى أن العمل مستمر لجهة إعداد قرارات جديدة لتطوير التعليم المهني ليأخذ مكانه الطبيعي بالمجتمع الذي يجب أن يكون معدل قبول الطلاب بحسب رأي بني المرجة 70% للتعليم المهني و30% تعليم عام، هذا الرقم الطبيعي لتطوير البلد والبدء بإعادة إعمار جدية بالبلد رغم حاجتنا لجميع الشهادات والقطاعات.
الميول وارتباطها بالتعلم
من جهتها أوضحت الباحثة الاجتماعية أمل قدور أنه عندما نتحدث عن التعليم المهني علينا أولاً الحديث عن الميول بمعنى اهتمام وانتباه الفرد ورغبته في مهنة معينة أو عمل معيّن يفضله عن غيره من المهن أو الأعمال بغضّ النظر عما يحققه له من شهرة أو عائد مالي، وأعربت عن أسفها من استمرار النظرة القاصرة الدونية للتعليم المهني، محملةً الأهل الدور الأكبر في تعزيز هذه الفكرة، فعلى سبيل المثال عندما يكون الأب طبيباً أو مهندساً فإنه يسعى إلى أن يكون ابنه مثله تماماً ضارباً عرض الحائط برغبات وأمنيات ابنه!.
وتؤكد الباحثة أنه حتى لو تمّ إلغاء تحديد درجات القبول فالنسبة الأكبر من الطلاب ستختار التعليم العام، والحال ينسحب على شهادة الثانوية، حيث سنجد الموضوع لن يتغيّر والدرجات هي التي ستحدّد الفرع الذي سيدرسه في الجامعة وليست ميوله أبداً.
حملات توعية
ودعت الباحثة الاجتماعية لتنظيم حملات توعية بأهمية التعليم المهني ودوره في تطوير البلاد، على أن تبدأ الحملات من الأسرة من أجل تحديد ميول الطفل منذ الصغر والعمل على تنميتها وتعزيزها، حتى لو لم تكن متوافقة مع رغبات الأسرة، وثانياً تكثيف التوجيه المهني في المدرسة وعمل أنشطة منتمية تساعد في الكشف عن الميول وفق مقاييس تطبق بما يتناسب مع عمر الطفل مثل “مقياس مهنتي” القائم على “نظرية هولان” ويطبق هذا المقياس للأطفال من عمر 6-13 حيث يتمّ من خلاله التعرف على الميول المهنية في مرحلة مبكرة مما يساعد على رسم المستقبل، إضافة لتعزيز الميول والرغبات الإيجابية لديه بطريقة تربوية ومنهجية وهذا يكون بالتعاون مع الأهل.
امتيازات مهنية
ونصحت الباحثة بزيادة التخصّصات المهنية بما يتناسب مع سوق العمل، وإعطاء امتيازات للطلاب الذين يخضعون لمقياس الميول ويختارون القسم الذي يتناسب مع ميولهم بغضّ النظر عن الدرجات التي حصلوا عليها، وتخصيص ميزانية أكبر للتعليم المهني ومنح الطلبة شهادات معترف عليها دولياً، كذلك إدراج بعض المهن التي لا تتسبّب بالخطورة على الطفل في مراحل عمرية أصغر، فما نشهده اليوم من عمالة أطفال في كلّ المجالات رغم القوانين التي تمنع ذلك، وما نشهده من أمية الطلاب رغم وصولهم للصف السابع، وما نشهده من تسرب، يجعلنا نعيد التفكير بمنظومة التعليم والبحث عن الخلل في ظل الأوضاع الراهنة والبدء بعملية إصلاح هذه المنظومة، واحتواء هؤلاء الأطفال ومراعاة ميولهم وقدراتهم وأوضاعهم الاقتصادية.
اليوم ونحن على أبواب المفاضلة الجامعية نأمل أن تعمل وزارة التعليم على دعم الناجحين في الثانويات المهنية وزيادة نسبة القبول في المعاهد الفنية التقانية، وللتذكير منذ أكثر من 15 عاماً خطّطت وزارة التعليم العالي لقلب الهرم في نسب القبول الجامعي، بحيث يكون القبول في المعاهد أكثر من 50% في مفاضلة القبول الجامعي بدلاً من 15%، لكن للأسف بقيت هذه الخطة مجرد حبر على ورق، ليستمر تسرّب الطلبة من المدارس المهنية، مقابل حشو الطلبة في الكليات الطبية والهندسية والعلوم الإنسانية حتى باتت الكليات الجامعية كمستودعات لتخريج الآلاف من الشباب الباحث عن فرصة عمل دون أن يجدها، بينما لو درس في معهد وتعلم حرفة أو مهنة لكان بمقدوره إيجادها وبراتب جيد جداً.
ليندا تلي