أوروبا ستعيش شتاءً قاسياً
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
مما لا شك فيه أن الأزمة السياسية الراهنة بين روسيا والغرب نتيجة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التي دخلت شهرها الثامن، والعقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على روسيا سيكون لها انعكاسات كبيرة على الاقتصاد العالمي بشكل عام، وعلى اقتصاد أوروبا بشكل خاص، بسبب اعتماد أوروبا الكبير على الغاز القادم إليها من روسيا، وعلى المواد الأخرى التي تستوردها من أوكرانيا.
ومن وجهة نظر المحللين الأوربيين، هناك تدمير محكوم للقارة الأوربية إذا استمر قادتها في الانصياع وإتباعهم الأعمى لسيدهم الأمريكي والإصرار على فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، لأن الشعوب الأوربية هي التي ستدفع ثمن هذه العقوبات بالتأكيد، باستثناء المجريين الذين رفضوا تنفيذ هذه العقوبات، وأبرموا مؤخراً عقد غاز جديد مع روسيا.
وفي الوقت الذي يدعي فيه القادة الأوربيين أن أزمة الطاقة والغذاء بأكملها على أنها “حتمية”، إلا أن المحللين يؤكدون أنها نتيجة طبيعية للاختيارات الخاطئة التي تم اتخاذها في بروكسل، وبرلين، وأمستردام، والتي لم يسأل قادة أوروبا شعوبهم عن رأيهم بها. ويتساءل هؤلاء المحللون: هل استخدم الغرب أوكرانيا كذريعة لارتكاب انتحار اقتصادي جماعي؟ وهل تحقق بعض الأهداف المتعلقة بالمنتدى الاقتصادي العالمي؟ وإلا، لماذا يقطعون جميع العلاقات الاقتصادية مع موسكو، في وقت من الواضح أنه ليس لديهم مصادر أخرى بديلة عن المصادر الروسية؟ ولماذا تهدف دولة مثل هولندا إلى إغلاق 10000 مزرعة من مزارعها بسبب فقدان أوكسيد النتروجين الذي تستورده عادة من روسيا، في حين أنه من الواضح أن هذا سيؤدي إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمية المقبلة؟.
كان ممكن تجاوز الأزمة
يدرك القادة الأوربيون أن الأمور لا تمضي على ما يرام، ورغم ذلك يصّرون على الاستمرار في تنفيذ أوامر سيدهم الأمريكي، فمن المتوقع أن ترتفع أسعار التدفئة والبنزين والطعام أكثر بكثير مما هي عليه الآن، اذ كان بإمكان الهولنديين التفاوض مع مزارعيهم وحل مشاكلهم المتصورة مع أكاسيد النيتروجين ببطىء، مع الحفاظ على إنتاج الغذاء، وكان بإمكان الحكومات الأوروبية إيجاد طريقة لإبقاء الثقافات الروسية والأوكرانية متاحة في الأسواق العالمية، لكن هي لا تريد ذلك لأنها تخاف من غضب الأمريكي عليها.
في السياق، قدم أحد محللي الاقتصاد قائمة بما لن يحصل عليه الاتحاد الأوروبي بعد الآن نتيجة العقوبات ومقاطعة روسيا: الغاز الطبيعي، والأتربة النادرة، والغازات الخاملة، والبوتاس، والكبريت، واليورانيوم، والبلاديوم، والفناديوم، والكوبالت، والكوك، والتيتانيوم، والنيكل، والليثيوم، والبلاستيك، بالإضافة الى الزجاج والسيراميك والأدوية، والسفن، والأحبار، والطائرات، والبوليمرات، والغازات الطبية والصناعية، وحلقات الختم والأغشية، ونقل الطاقة وزيوت المحولات، والتشحيم وغاز النيون لنقش الرقائق الدقيقة، فلماذا يفعلون هذا، وهل يريدون قتل اقتصادهم؟ بالطبع تحاول وسائل الاعلام بالطبع إلقاء اللوم على الرئيس الروسي، لكن لم يكن هو الذي فرض العقوبات، بل فوق ذلك عرض السماح باستمرار تصدير الغاز والنفط، لكنهم رفضوا بكل وقاحة.
كلمات جوزيب بوريل
يراهن الرئيس فلاديمير بوتين الآن على أن ارتفاع أسعار الطاقة والنقص المحتمل هذا الشتاء سيقنع أوروبا بالضغط بشدة على أوكرانيا من أجل التوصل الى هدنة بشروط روسيا، ووفقاً لمصدرين روسيين مطلعين فإن هذا هو الطريق الوحيد للسلام نظراً لأن كييف تقول إنها لن تتفاوض حتى تغادر روسيا أوكرانيا بأكملها. قد يفكر بعض القادة الأوروبيين مرتين قبل الاستمرار في دعم أوكرانيا ويعتقدون أن الوقت قد حان للتوصل إلى اتفاق، حيث يريد رئيس السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، من الأوروبيين أن يكونوا مخلوقات صغيرة مطيعة، وأن يعاقبوا على السياسات التي صاغها هو وأمثاله، ويجب عليهم أن “يتحملوا عواقب” الحرب في أوكرانيا. كان بوريل هذا قد قدم تقييماً فاضحاً بشكل مفاجئ للحرب في أوكرانيا، وموقف أوروبا غير المستقر في مقابلة مع وكالة “فرانس برس” مؤخراً، معترفاً بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يراهن على كسر رد الاتحاد الأوروبي الموحد وسط الأزمة الحالية وتصاعد حالة الأزمة، وارتفاع الأسعار أو عدم اليقين بشأن الطاقة. وقد بدا أن كلمات بوريل اقتربت من الاعتراف بأن تكتيكات بوتين تعمل على مستوى ما، أو على الأقل ستؤدي في الواقع إلى تآكل العزم الأوروبي على المدى القصير والطويل حيث اختار كلمات مثل سكان الاتحاد الأوروبي الذين يتعين عليهم “تحمل” العمق، والآلام الاقتصادية وأزمة الطاقة الخطيرة، وطلب منهم تحمل وتوزيع التكاليف داخل الاتحاد الأوروبي”، محذراً من أن الحفاظ على اتحاد الدول الأعضاء السبعة والعشرين مهمة “يومية.
بينما جادل البعض، مثل المجري فيكتور أوربان، فإنه من المحتم أن يضطر البعض إلى تحمل “التكاليف” أكثر من الآخرين، ويمكن رؤية هذا الأمر من خلال مبادرات خارج بروكسل مثل تقنين استهلاك الغاز، مما أدى إلى حدوث سيناريوهات على غرار تلك التي حدثت في المدن الألمانية، وحتى تفويض المساكن لإطفاء الأنوار أو الموارد لفترات محددة من الليل، ومن المحتمل رؤية المزيد من العناوين الرئيسية مثل: “المدن الألمانية تفرض زخات باردة وتطفئ الأنوار وسط أزمة الغاز الروسية”.
نهاية الوفرة
من جهته، أخبر ماكرون مجلس وزرائه في نهاية الأسبوع الماضي في أعقاب عودته من العطلة الصيفية أن فرنسا تتجه نحو نهاية الوفرة، وأنه ويجب تقديم ” التضحيات ” في هذه الفترة التي تشهد اضطرابات كبيرة، بعدما واجهت البلاد تحديات متعددة مؤخراً، بدءاً من الأزمة الأوكرانية، وصولاً إلى الجفاف غير المسبوق الذي ضرب القارة الأوروبية بأكملها هذا الصيف. ويعتقد ماكرون أن الأزمة أوسع نطاقاً، وأن التغييرات الهيكلية وشيكة، داعياً الحكومة ومواطنيه لأن يكونوا على استعداد لتقديم “تضحيات” لمواجهة التحديات التي يواجهونها للتغلب عليها.
أما رئيس الوزراء البلجيكي فقد بدا أكثر واقعية عندما قال: “سوف تتجمد أوروبا على مدى السنوات العشر القادمة”، مشيراً إلى أن الفصول الخمسة أو العشرة القادمة في الشتاء، ستكون صعبة مع تفاقم أزمة الطاقة.
وعليه، لن تسير الأمور على ما يرام لا “للزعماء” الأوروبيين ولا للاتحاد الأوروبي ولا لأوكرانيا ولا للأوروبيين، وهنا يمكن المراهنة فقط على عدد القادة الذين سيظلون في مناصبهم بحلول الربيع، وبالتأكيد لن يكون زيلينسكي واحداً منهم، فهؤلاء القادة لا يعلمون ما قد ينجم عن حجم غضب الأشخاص الذين يعانون من الجوع المتجمد وعواقبه.
اوروبا تعاقب نفسها
مزيداً على ذلك، وبالنسبة لأوروبا، فإن فرض نظام عقوبات على روسيا سوف ينعكس بقوة على أوروبا التي تواجه ركوداً وأزمة طاقة موجودة مسبقاً، وسوف تتفاقم بشكل كبير بسبب قيام ألمانيا بالتضحية بخط “نورد ستريم 2” لإرضاء الأمريكي. في حين أن التضخم المتصاعد الذي تفاقم بسبب سعر النفط 100 دولار، يتسبّب في أزمة بأسعار الفائدة والسندات السيادية، ورغم ذلك، فرضت أوروبا العقوبات على روسيا بعد تعرّضها لضغوط أمريكية كثيفة، والتي من شأنها التأثير بشكل مباشر على جيوب الأوروبيين.
تخوض بعض الدول الأوروبية معركة خلفية للحدّ من العقوبات التي قد تؤدي إلى تفاقم الركود الأوروبي المقبل. لذلك، وبحسب خبراء الاقتصاد الأوروبيين، فإن أوروبا تفرض عقوبات على نفسها وسوف تعاني أكثر من غيرها من عقوباتها، وقد وعدت موسكو بالردّ على هذه العقوبات بطريقة قاسية قد تلحق الضرر بالولايات المتحدة وأوروبا. وبحسب هؤلاء الخبراء، يجب أن يفسّر هذا الاحتمال والعجز في مواجهة الكثير من إحباط وغضب الأوروبيين، بينما تزعم واشنطن أن لديها “سلاحاً قاتلاً” يستهدف موسكو والمتمثل بفرض عقوبات على رقائق أشباه الموصلات. باختصار، يمكن لسيطرة موسكو على المعادن الاستراتيجية الرئيسية أن تمنحها نفوذاً يمكن مقارنته بسيطرة “أوبك” الخانقة على الطاقة في عام 1973.
وفي سياق متصل، أشار تقرير حديث نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الى تداعيات العقوبات الأوروبية الجائرة على روسيا، على تعافي الاقتصاد الأوروبي من جائحة كورونا، مشددةً على أن العقوبات وأسعار الطاقة المرتفعة ستؤثر بشكل سلبي على كل شيء في الوقت الذي يتباطأ فيه النمو ويزداد التضخم. هذا وتزود روسيا أوروبا بموارد الطاقة التي تستخدم في تشغيل الأعمال التجارية والتدفئة والمعادن وسلع أخرى لصناعة الأسمدة الزراعية، في حين تصدر أوروبا لروسيا الآلات ومعدات النقل. وأضاف التقرير أن ارتفاع تكاليف الطاقة مع وصول سعر برميل النفط لأكثر من 100 دولار، سيكون له تأثير سلبي مباشر على التوقعات الاقتصادية لأوروبا ما من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وتخفيض دخل السكان. مع العلم أن روسيا كانت خامس أكبر سوق خارجي للاتحاد الأوربي، حيث بلغ حجم المبيعات 89 مليار يورو عام 2021، فيما كانت ألمانيا ترسل 2% من إجمالي صادراتها إلى روسيا، أي ما يمثل 1% من ناتجها الاقتصادي، بينما كانت روسيا تشتري حوالي 3% من صادرات بولندا.
وفي حال طال أمد الأزمة وتصاعدت وتيرة العقوبات في كلا الاتجاهين، وانخفضت امدادات الطاقة الروسية الى أوروبا، فقد يدخل اقتصاد منطقة اليورو في ركود خطير قد يمتد لأشهر طويلة وفقاً لخبراء الاقتصاد. فيما أشار كبير الخبراء في وكالة “موديز”، إلى أنه في حال قامت روسيا بتقييد الامداد بالطاقة أو في حال حدث أي ضرر في خطوط الأنابيب، فقد يشهد العالم ارتفاعاً كبيراً في الأسعار ما قد يؤدي الى سيناريو التضخم المصحوب بركود اقتصادي، وحينها ربما يرتفع معدل التضخم السنوي في منطقة اليورو الى 6،3% في العام الجاري. وكان وزير الاقتصاد الفرنسي شبه أزمة الطاقة الراهنة في حدتها إلى الصدمة النفطية التي حدثت عام 1973. في حين حذر الخبير الاقتصادي مايكل هدسون من إرتداد هذه العقوبات على أوروبا وأمريكا معاً، لأن روسيا تمتلك مقومات قوية لتفادي تأثيرات العقوبات عليها، كما تمتلك البدائل، والولايات المتحدة وأوروبا عاقبت نفسها لأن مثل هذه العقوبات سوف تسرع عملية إزالة الدولار وتفكيك هيمنته على الاقتصاد العالمي، ذلك أن استبعاد روسيا من نظام “سويفت” المصرفي الذي يعالج 42 رسالة يومياً، ويعمل بمثابة شريان الحياة لأكبر مؤسسة مالية في العالم، يمكن أن يأتي بنتائج عكسية ويزيد التضخم، و يقرب روسيا من الصين ويحمي المعاملات بينهما من العقوبات الغربية.
أفول الهيمنة الامريكية
وهذا ما يجب أن تستفيد منه روسيا بشكل فعال في الوقت الحالي، حيث سيعمل الانحدار السريع للهيمنة الأمريكية على العالم على إطلاق العنان لإمكانيات هائلة حول العالم -مناطق، دول وحضارات بأكملها. ومن خلال الجمود، قد يخشى البعض من التحالف الأنغلو ساكسوني، قائلين إن بريطانيا ستعود، وأنها ستتحالف الآن مع الولايات المتحدة ودول الكومنولث وتستعيد قبضتها الاستعمارية. حقيقةً، لم تعد بريطانيا موضوعاً حقيقياً في التاريخ الطويل الأمد، وليس هناك الكثير ليقال عن أستراليا. علاوة على ذلك، يعد الوجود المالي وحتى الديموغرافي للصين في المحيط الهادئ عاملاً هائلاً بالفعل لتراجع الهيمنة في كل مكان، كما أن هناك مشروع قاري كبير من لشبونة إلى فلاديفوستوك، لتحالف روسي صيني أوراسيوي، لدورة جديدة في العلاقات بين روسيا والعالم، وللتقدم في إفريقيا و أمريكا اللاتينية.
هذا المشروع يتطلب إستراتيجية، وتصميم، وإرادة، وتركيزاً للقوى وأيديولوجية بقدر ما تتطلب الجغرافيا السياسية العظيمة أفكاراً عظيمة. في الوقت الحالي -طالما أن هناك أحمقاً في السلطة في الولايات المتحدة – فإن لدى روسيا فرصة تاريخية ليس فقط لترسيخ التعددية القطبية المولودة حديثاً، وإنما أيضاً لتوسيع نفوذها بشكل كبير على الصعيد العالمي، فالهيمنة الأحادية تختفي وهي بمثابة تنين جريح، ولكن لا يزال بإمكانها الضرب بقوة وألم. لذلك يجب أن يكون الآخرون حذرين من الآلام الوهمية للإمبريالية، والاستعداد لهجوم مضاد، ومثلما تفكك الاتحاد السوفييتي في عام 1991، حان الآن دور أفول الهيمنة الأمريكية.