حسام الدين بريمو يغيب عن قيادة الغناء الجماعي
البعث الأسبوعية- جمان بركات
“سيبقى يوم الثلاثين من شهر كانون الأول ذكرى لاتفارقني” هذه العبارات قالها المايسترو حسام الدين بريمو أثناء لقائه محبيه وجمهوره وطلابه وأعضاء الكورالات التي أسسها خلال مسيرة ربع قرن كرّس خلالها مفهوم الحبّ في العمل الجماعي ونزع الأنانية وحبّ الذات، في جلسة أماسي بإدارة الإعلامي ملهم الصالح منذ عدة أعوام، ولكن اليوم اختلف الأمر فأصبح الأربعاء 24 آب يوم لا ينسى برحيلك يا مايسترو وعرّاب “لونا للغناء الجماعي”.
“الغناء جماعة سبيلنا إلى التعلم كيف نعيش معاً” عبارة لن تخطر في الأغلب على بال أحد في المنطقة العربية، اللهم سوى ندرة قليلة، ممن يجمعون المعرفة الموسيقية العميقة بالرؤية الكونية البعيدة، وكان الموسيقي والمربّي حسام الدين بريمو، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، واحداً من بين هؤلاء ممن تبنى تلك العبارة، قناعةً راسخة، على طول مشواره الفني الذي امتد أربعين عاماً جعلها له غاية عساها أن تُضفي على الحياة مسحة من الأبدية.
بريمو وصلحي الوادي
ولد حسام الدين بريمو في مدينة دمشق لأسرة تعود أصولها إلى مدينة صيدنايا، لقد شغف الطفل حسام بالموسيقا بسن مبكرة جداً وبالآلات النفخية عكس أغلب الصغار الذين يختارون البيانو أو الكمان، وظل لعقدين يتعلم العزف على آلات الفلوت والترومبيت والكلارينيت، وكان هذا مفيداً جداً على صعيد الغناء.
لعب في حياته الموسيقار الراحل صلحي الوادي دوراً كبيراً حيث بدأ مع انتسابه للمعهد العالي للموسيقا فور افتتاحه، فحسام كان قد تخرج في المعهد المتوسط الهندسي وأنجز خدمة العلم وعمل في المسرح الجامعي وفي نهاية العشرينيات من عمره، عندما تقدم إلى فحص القبول في هذا المعهد المفتتح حديثاً، فقد اختبره الوادي بنفسه وتجاوز عن شرط العمر لأنه وجد حسام موهوباً جداً ويتقن العزف ببراعة على معظم الآلات النفخية، ليصبح حسام ضمن عداد الدفعة الأولى للكونسيرفتوار السوري.
في المعهد درس حسام على يد ثلاثة أساتذة من خريجي المدرسة الروسية هم الأذربيجاني فاغيف باباييف الذي درّسه العزف على آلة الأوبوا الصعبة، والروسية غالينا خالدييفا في اختصاص الغناء الكلاسيكي، ومارس الغناء مع جوقة المعهد العالي بإشراف الروسي فيكتور بابينكو مغنياً منفرداً لامتلاكه، كما يؤكد الباحث الراحل صميم الشريف طبقة الصادح “تينور” الصوتية حتى صار واحداً من المغنين المعتمدين في حفلات الفرقة الوطنية السيمفونية، واعتمده الوادي لقدراته الفائقة ليؤدي دور البحار الأول في أوبرا دايدو وإينياس أول عمل أوبرالي يؤدي السيمفوني السوري.. ولكن حسام شب عن الطوق وحاد عن الطريق الذي رسمه له أساتذته، ولم يعر التركيز الكبير للغناء الأوبرالي، واندفع نحو الموسيقا العربية والغناء فيها وأحيا في سبيل ذاك عدة حفلات في القاهرة وبيروت مع الفرقة الوطنية للموسيقا العربية التابعة للمعهد بقيادة العراقي حميد البصري.
القيادة
لقد قاد حسام جوقات لونا عبر كل حفلاتها الخاصة أو المناسبات الكثيرة التي أحيتها داخل وخارج سورية، وهو لم يقم بذلك اعتباطاً بل درس قيادة الأوركسترا في دورات تدريبية عديدة، حتى قادته قدماه إلى القاهرة حيث تدرب بإشراف قائد فرقتها السيمفونية الدكتور أحمد الصعيدي.
أصر بريمو طيلة السنوات السابقة على قيادة الجوقات، وليس من باب المصادرة، وعندما وجد أنه آن الأوان للاعتماد على المشاركة بالقيادة والتدريب لإنشاء كوادر قيادية ضمن استراتيجية العمل.
جوقة لونا
طوال مسيرته كان بريمو يرى بالغناء الجماعي نوع رائع غاب عن أذن الإنسان العربي، ويجب إعادته، وقد أخذ على عاتقه مسؤولية إرجاع هذا اللون إلى المشهد الثقافي والموسيقي، وسعى جاهداً لإرجاع ألوان موسيقية أخرى غابت عنا.
تنقل حسام بين عدة مناصب من قيادة وتدريب فرقة المعهد العربي للموسيقا صلحي الوادي حالياً وقيادة جوقة الإنشاد السرياني في كلية مار أفرام بمعرة صيدنايا ومادة التربية الموسيقية في كلية التربية بجامعة دمشق، فضلاً عن ترؤسه لقسمي الغناء الكلاسيكي والعزف الجماعي في المعهد العالي، ولكن كل ذلك لم يكن ليلامس حلمه المتمثل في تأسيس جوقة غنائية.. وضربت سنة 1999 موعداً مع المايسترو الراحل لتحقيق حلمه، عندما أسس أول فرقة من سلسلة جوقات “لونا للغناء الجماعي” باسم جوقة “قوس قزح”، قدم من خلالها ألواناً مختلفة من الغناء، وعنها قال في إحدى حواراته: لسنا مضطرين أن نقدّم لوناً واحداً، فنحن جماعة بشرية تحمل رسالة جمال إلى أمة كان فيها جمال وأخذ بالتضاؤل والتي قدمت الغناء الكلاسيكي والشعبي والحديث بأكثر من عشرين لغة.
وفي عام 2003 أسس حسام ثاني جوقات لونا بعنوان جوقة “ألوان”، التي ضمت نحو 100 طفل وطفلة وكانت غايته أن تكون جوقة ملوّنة بألوان زاهية وليست متباينة مختلفة، أو متخالفة. وعنها قال: “لماذا لا نسترجع هذا الجمال والفرح ونشحن أبناء وطننا بشحنة من السعادة والجمال والإيجابية ليبدعوا ويقدّموا شيئاً مهماً وهذا ما نسعى إليه”.
بعد ذلك بعام أسس الراحل ثالث جوقات لونا وحملت اسم “ورد” وضمت 40 فتى وفتاة، وقدم عبرها بثلاثة أصوات أعمالاً متنوعة المواضيع إضافة لأعمال تراثية.
وفي عام 2006 أسس وقاد فرقة “شام” رابع جوقات لونا، التي اهتم من خلالها بتقديم التراث الغنائي العربي بأسلوب تقليدي، وأعقب تأسيس هذه الفرقة بعام جوقة “سنا” وهي خامس جوقات لونا للغناء الجماعي وتأتي أهميتها من أعضائها الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و6 سنوات، أما آخر فرقة من جوقات لونا فتأسست عام 2008 وتضم عازفين على مختلف الآلات الموسيقية الغربية والشرقية لمرافقة الجوقات الخمس في الحفلات التي تقيمها.
التراث الغنائي
اجتهد في تعلّم الغناء على أصوله المحلية والعالمية في الكنيسة الشامية، إحدى أولى بيوت الجوق في الشرق، تشرّب التراث الغنائي الشرقي السرياني والبيزنطي المتجذّر في بلاد الشام لأعمقَ من ألفيّ عام، تعلّم قواعد الغناء الكنسي، وآدابه، والمناهج التي لقنت بواسطتها التراتيل أحادية الصوت، ولحنت اعتماداً لنواظم المقامات الشرقية وانتقالاتها، على نمط خطي مزوق، مرسل وممتد في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، درس الغناء الكلاسيكي الغربي خَبِر كيف تبنى الجوقة الغنائية متعددة الأصوات أي عندما لا يقوم جميع الأعضاء بالضرورة، بغناء اللحن نفسه، على النغمة نفسها.
كنوز فنية
أحب الفنان الراحل بريمو أن تراثنا الفني غني جداً، ونحن نمتلك كنوزاً فنية كثيرة، فالتراث اللامادي السوري أضاء الكرة الأرضية، ويجب أن يُحفظ ويُوثق، وبالتالي فالمطلوب من مؤسساتنا أن تقوم بهذه المهمة من خلال تشكيل فريق عمل يغطى عمله من قبل جهات رسمية للبحث في القرى والمدن وبشكل علمي ودقيق، وجمع هذا التراث من الأفواه وليس من المكتبات ليتم تدوين كل الألحان السورية التي تم غناؤها، وكذلك الموسيقا والرقصات والعادات المرتبطة بالفنون.
الموت يُحارب بالغناء
تمتع حسام بريمو بشغفه للموسيقا، وبحبه للعمل الموسيقي على اختلاف الأعمار المشاركة في جوقاته، فكان لكبار السن نصيب جيد، فجعلهم يحاربون الموت بالغناء، ومن سمعهم فبالتأكيد تسلل الفرح إلى داخله دون استئذان، فقد تحدوا التقدم في العمر بالغناء بفضل قائدهم المبدع، فكان الوحيد القادر على إبقاء الفرح مستمراً في قلوبهم بعد أن خانهم الجسد لتبقى حناجرهم تصدح بالفرح والأمل، وعن هذه الفرقة قال:
“أنا لم أؤسس الكورال، وإنما أعضاءه قد أسسوا أنفسهم من خلال جمعية النهضة الفنية ودعوه لتدريبهم، وهكذا وضع بالنسبة له يجعله أكثر استرخاء لأن حجم المسؤولية على أكتافه في مثل هذه الحالة أقل، فهم أفراد يعيشون حياتهم بشكل طبيعي، وهم آباء وأمهات وأجداد ولديهم مسؤوليات وأشغال مختلفة، ولكنهم مختلفون عن الآخرين في أنهم أدركوا أن الغناء قضية بالغة الأهمية لدرجة أن يخصصوا له الوقت، فالغناء معالج نفسي ينقّي دواخلنا من الشوائب الحياتية، وهو أمر هام في حياتنا، والدليل أن الإنسان ومنذ أن اخترع هذا النشاط وحتى الآن لم يتركه ككثير من الأنشطة التي اخترعها ولم يتماشَ معها فغادرها ليبقى الغناء النشاط الوحيد الذي لم تتخلَّ عنه البشرية، ولأن الغناء له كل هذه الأهمية فإن أعضاء الفرقة قادرون على ترك كل أنشطتهم وانشغالاتهم الأخرى ليأتوا إلى القضية الأهم بالنسبة لهم في هذا العمر بالتحديد، حيث يصبح فيه الجسد غير قادر على ممارسة الكثير من الأنشطة، إلا هذا النشاط، فيلجأون إليه متنفساً ومنقذاً، والجميل في أعضاء الكورال أن الجميع يشبهون بعضهم من حيث إيمانهم بقيمة الفرح والفن والجمال في الحياة”.