مستقبل الأمة ووعي الذات
د. خلف المفتاح
الكثير من الأسئلة تطرح حول مستقبل الأمة العربية، وبقدر ما يشكل الطرح قضية سياسية أو فكرية فهو من حيث المضمون مسألة تدخل في عالم الفلسفة، لأن جدوى الفلسفة يتأسس على فن التفكير وفن الشك وفن التساؤل وفن قول “لا”. وإذا كان المستقبل أمرا صعب التعين لأنه جزء من زمان آت، ولا إمكانية لتبصر ما يمكن أن يؤول إليه الحاضر، فقراءة المستقبل وفق تلك الفرضية الموضوعية ليس على تلك الدرجة من السهولة لنرسم طريق المستقبل وكأننا تراه. لذلك يمكننا القول أننا أمام حزمة تصورات لذلك المستقبل نستبصرها أو نراها أو نأمل أن نراها مغايرة لما هو حاصل في الحاضر الذي نرفضه ولا نجده مناسبا أو مقبولا بالنسبة لنا، وكأن المستقبل هنا هو النقيض للواقع الذي نعيشه ونعتقد أنه غير مناسب لنا أو يشبه تطلعاتنا وآمالنا، فنحن هنا نحاول تجاوزه عبر تلك التصورات ولكن هذا لا يعني أن الناس جميعهم ينطوون على تصور واحد للمستقبل، فهذه التصورات تحكمها عدة عناصر فكرية وإيديولوجية وتاريخية وثقافية وتعكسها أيضا ذهنية محددة وواقع اجتماعي وفلسفة حياة .
وبالعودة للعنوان المتعلق بمستقبل العرب بوصفه سؤال العربي، أو لنقل العرب، فهو انطلاقا مما جرت الإشارة إليه خليط من إيديولوجيا ومعرفة علمية وأحلام وإمكانيات بعضها زائف وآخر واقعي – حسب الحال – وهذه الحزمة يمكن تسميتها وعي العرب للمستقبل. ولكي نفكك هذا الوعي المركب، يجب أن نفككه انطلاقا من العلاقة بين الإمكانية والمستقبل. وعلى هذا التنوع لوعي المستقبل، نجد أن ثمة وعيا نكوصيا تاريخيا، أي أن ثمة تيارا يرى أن المستقبل المأمول والمنشود يكمن في إعادة إنتاج الماضي واسترجاعه، أي لا بد من استعادة الماضي بتفاصيله ليكون النقيض لواقع مرفوض، أي استعادة الماضي في المستقبل، وهو التاريخ الذي كان، وهو ما يراه البعض مسخرة تاريخية، إذ لا يمكن لتاريخ أن يتكرر كنسخة كاملة، وهذا يمكن وصفه معرفيا بالممكن الوهمي، أو الزائف، فالواقع ينطوي على ممكنات ولكن ما هو غير قابل للتحقق ليس ممكنا، فالممكن الوهمي التخيلي الزائف هو فكرة بالذهن فقط وليس في الواقع، وبالتالي فكرة غير قابلة للتحقق. ولا شك أن خطر الممكن الزائف هو أن يخلق إمكانية لتحقيق الممكن الزائف، ولكن عبر التضحية بالذات، أي السعي لتحقيق ذلك الممكن الزائف عبر العنف، لأنه – من وجهة نظر معتقديه وحامليه – هو ممكن حقيقي وليس زائفا، وهذا هو جوهر ما يمكن تسميته بالنكوص التاريخي، وهنا يمكن القول أن كل سعي لنكوص تاريخي هو غالبا نكوص عنفي أو يستخدم العنف .
وإذا كان السؤال عن مستقبل العرب سؤالا مشروعا لكن السؤال الأهم هو: هل نحن العرب من نصنع التاريخ في عالم اليوم؟ وإذا كان الجواب بالنفي، فمن هم صناع التاريخ العالمي؟ لأن لهؤلاء دورا في صناعة تاريخ غيرهم أو الدخول في حيثياته، وصناع التاريخ حاليا هم مع الأسف لسنا نحن العرب، بل قوى كبرى تملك إمكانيات علمية واقتصادية وعسكرية هائلة، بمعنى أن ثمة دولا قدمت وحسمت معايير وعناصر للتقدم التاريخي – وحاليا هي أميركا وأوربا، وتلحق بها الصين وبعض القوى الأخرى – تقوم على فكرة التطور والتقانة والحرية والديمقراطية والإنصاف، لذلك لا يمكن الحديث عن مستقبل عربي ما إن لم نأخذ بالاعتبار العناصر المشار إليها، فالتاريخ هو مسار وعي الحرية لذاتها، كما عرفه الفيلسوف الألماني هيغل، أي أن التاريخ هو التعين الدائم لفكرة الحرية.. وعندها تصبح مسألة تعين فكرة الحرية في وعي أبناء الشعب وليس وعيها في فهم الحاكم أو السلطة لها؟ وتبرز هنا مشكلة، أو لنقل فكرة ومفهوم، الحرية عند الشعوب العربية، وجوارها، على قاعدة ما يمكن تسميته الوعي الشرقي للحرية، فالحاكم وحده الحر بينما الآخرون هم الأتباع، ولأن معيار الحرية أصبح عالميا، فلا بد من وعي أفراد المجتمع لحريتهم لمواجهة احتكار السلطة الحاكمة لمفهوم الحرية وتعريفها له، الأمر الذي قد يؤدي إلى انفجار مجتمعي مستقبلي، وهو ما حدث في بعض الدول انطلاقا من فكرة الحرية .
إن المشكلة الحقيقية في المجتمعات العربية هي مستويات الوعي وفهم الحرية والمؤثرات الخارجية في الداخل وتحريكه. من هنا يصبح السير نحو المستقبل مسألة متعددة الأوجه انطلاقا من التباين في مستويات الوعي والذهنية العامة وطرق التفكير، فهي معركة لا يمكن تحديد مساراتها ولا نهاياتها على نحو واضح وجلي، لذلك لا بد من إبداع لاقتناص فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وهذا دور النخب والحركات السياسية وقدرتها على التحشيد والتأثير في الرأي العام لإنجاز الممكن الحقيقي القابع في الوعي العام، والسؤال: هل ينطوي العرب على ممكن حقيقي؟ وما هي الإرادة القادرة على نقله إلى واقع؟ وللاجابة على هذا السؤال الصعب والمعقد، والذي لا يستطيع أحد الاجابة المطلقة عليه، ما يستدعي أن نطرح السؤال الحقيقي وليس الزائف، وهو إمكانية تحقيق عقد اجتماعي في كل دولة من الدول العربية شرط أن يكون عقدا اجتماعيا وطنيا وليس مفروضا بالقوة، سواء كانت داخلية أو خارجية، والحديث هنا هو عن الدساتير وأهمية انطوائها على الاعتراف بالحق في الاختلاف واحترام التنوع وسلطة القانون وفكرة المواطنة الحقيقية والعدالة والإنصاف .
والحال: أن السؤال الذي يفرض نفسه على النخب جميعا: ما هو مصير الشعارات الكبيرة والإيديولوجيات التي طرحت في ساحة الجدال الفكري والسياسي وشهدت تجاذبات واصطفافات مختلفة؟ وبالنسبة للعرب هل هناك إمكانية للتأسيس لمقومات وعناصر ورؤية للسير باتجاه بناء مستقبل مشرق للأمة العربية في إطار الممكن الواقعي، أم أن المسألة اصبحت يوتوبيا جميلة؟ للاجابة على ذلك، يمكن القول أن لا إمكانية لدولة هي أمة إن لم تكن هناك دولة قطرية تقوم على فكرة أن ثمة سلطة هي نتاج إرادة شعبية، أي سلطة دولة، لا دولة سلطة، فلكي تقوم وحدة عربية لا بد من وجود دول سلطتها هي نتاج خيار شعبي حر ودولة مؤسسات، ففي ظل غياب الدولة – وفق مفهومها القانوني والدستوري – من الصعب قيام الوحدة، لأن الوحدة العربية هي تعبير عن إرادة شعبية واسعة يفترض أن تعكس نفسها في اختيار السلطة وشكلها وفلسفتها وخضوعها لإرادة الشعب الذي اختارها. وفي غياب عامل الإرادة الشعبية في اختيار السلطة تصبح إمكانية توفر إرادة سياسية على مستوى سلطات متشابهة في إنتاجها مسألة شبه مستحيلة، وهذا ما هو حاصل راهنا في المنطقة العربية، وعلى مستوى النظام السياسي العربي، وهذه مفارقة عجيبة لأن الدولة القومية المنشودة ستلغي أو تقلل من سيادات الدول التي ستتشكل منها، ومثاله الاتحاد الأوربي. وهنا، لا بد لتحقيق فكرة الوحدة من انتصار فكرة قيام الدولة الدستورية والعقد الاجتماعي الوطني الذي يدفع باتجاه الدولة الأمة، أي أن طريقة إنتاج السلطة مجتمعيا هي المدخل لبناء دولة وطنية تدفع باتجاه الدولة الأمة .
وإذا.. الحديث عن أن الوحدة العربية رغبة شعبية سليم، ولكن الواقع يؤكد حقيقة أن البشر بشكل مجرد لا يمثلون فاعلية سياسية، ولكنهم يتحولون الي فاعلية سياسية إذا تعينوا بأحزاب وبمجتمع مدني ومؤسسات، وخارج هذا فهم ليسوا سوى “قطيع”، فأزمة الواقع السياسي العربي في النزعة القطيعية، وهي أزمة قوية، فمجتمع بلا نخب هو مجتمع قطيع، وهذا لا يعني أن النخبة هي “الكبش” للقطيع ويجري وراءه كالأغنام. فالنخبة بهذا المعنى هي العقل الذي يفكر بدل الذين لا يفكرون أو لا يجهدون أنفسهم في الشأن العام، لذا فإن معركة الإمكانية لمستقبل عربي منشود أو مأمول تكمن في انتصار الشعور بالأنا، وانتقالها إلى ذات فاعلة لا مغتربة أو متماهية مع النحن، فلا بد من وعي ذاتي بالحرية. ولعل معركة دخول عصر النهضة اعتمدت على الأنا الفاعلة (أنا أفكر أنا موجود)، فإعادة الاعتبار للذات هي المدخل الضروري لانبلاج نور الحرية.. حرية الفرد والجماعة.. ولعل المفارقة أو “البراكس” في مجتمعاتنا أننا نهرب، بل ونخجل، من الأنا، بحيث نقرن كلمة أنا بالقول: “أعوذ بالله من كلمة أنا”. وهذا يعكس مستوى تغول ثقافة غريزة القطيع في وعينا الجمعي والفردي، فإن لم نع وجودنا كأفراد فاعلين، ونبقى أسيري وعي تاريخي نكوصي، فلا مجال للحديث عن مستقبل للأمة، لأن وعي الذات الفردية يراكم وعيا جمعيا فاعلا ومؤثرا، لذلك نكتشف أن تعقيدات واقعنا العربي أكثر مما نتصور فهي ليست متعلقة بالسلطة السياسية ونهجها واستبدادها فقط، وإنما بأشكال الاستبداد الأخرى، الاجتماعية والدينية والفكرية وغيرها، فالمشكلة تكمن في حريتي التفكير والتعبير، ولعل الأولى هي المقدمة الضرورية والمدخل للثانية، لذلك لا بد لنا لكي نصنع تاريخنا أو مستقبلنا من أن نوفر شروط ذلك بارادتنا وتضحياتنا في سبيل الحرية، ومعركة الحرية هي معركة وعي وإرادة وفعل بالدرجة الأولى.